في كراكاس عليك أن تفاضل بين الغذاء والدواء
الوافد إلى العاصمة الفنزويلية على وقع الأنباء المتداولة عنها في وسائل الإعلام يتصّور أنه سيصل إلى ما يشبه «كراكستان»، أي إلى مدينة أنهكتها الحروب ودمّرت معالمها وبناها التحتية. لكن الدمار الحقيقي في كراكاس تجده في البشر أكثر من الحجر. ناطحات السحاب والمباني الحديثة البيضاء التي تكاثرت كالفطر في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي إبّان الفورة النفطية، ما زالت كما هي تشهد على الفوارق الحادة بين الأحياء الميسورة والأرباض الشعبية التي تعجّ بأكواخ الصفيح حيث استمدّ هوغو شافيز وقود ثورته البوليفارية. لكنها بهتت وتداعت لانعدام الصيانة وقلة النشاط والحركة بعد أن كادت عجلة الاقتصاد تتوقف وتصاب الخدمات الأساسية بالشلل. تراقب حركة الناس في الشوارع، يسيرون بحذر نحو غدٍ مجهول ويعرفون أن مصيره لم يعد بأيديهم بعد التطورات الأخيرة التي دفعت بالأزمة إلى نفق التدويل. ترى أسئلة كثيرة في الوجوه التي أتعبتها فصول الشقاء والخوف على السلامة والسعي الدائب وراء لقمة العيش، التي لا تصدّق كيف أن المواطن في بلد مثل فنزويلا عليه أن يفاضل أحياناً كثيرة بين الغذاء والدواء.
أحاديث الناس تدور منذ يومين حول الوساطة التي طلبها مادورو من البابا فرنسيس الذي عندما كان أسقفاً في الأرجنتين تعاطف مع دعاة «لاهوت التحرر» الذي استقى منه شافيز المبادئ الأساسية لمعتقد ثورته الاجتماعية، وحول المساعدة الإنسانية التي موّلتها الولايات المتحدة التي تنتظر على الحدود الكولومبية الضوء الأخضر من النظام لكي توزّع على الجائعين والمرضى.
الصحافي كارلوس تشامورو يقول: «بغض النظر عن الجهة التي قد تكون دفعته أو تدعمه، فلا شك أن المبادرة التي أقدم عليها خوان غوايدو عندما أعلن تولّيه الرئاسة بالوكالة، كانت خطوة جريئة وحاسمة على الصعيد السياسي. لكن يجب ألا ننسى أنها جاءت في نهاية مسار طويل من النقمة التي يشعر بها الفنزويليون، بمن فيهم الفقراء وسكّان الأحياء الشعبية في المدن الذين كانوا الدعامة الأساسية لنظام شافيز، ورغم ذلك فهم الأكثر تضرراً من سوء إدارته والفشل الذريع لسياساته الاقتصادية».
وكانت المفوّضيّة الأوروبية التي يقوم وفد منها بزيارة كراكاس هذه الأيام قد أعلنت عن قرارها افتتاح مكتب للمساعدات الإنسانية في كراكاس، لتلبية الاحتياجات الأساسية للسكان الذين يقاسون من تداعيات الأزمة الاقتصادية.
في غضون ذلك، يواصل النظام رفضه دخول المساعدات الإنسانية التي موّلتها الوكالة الأميركية للتنمية، بحجة أنها «ذريعة لتدخّل عسكري إمبريالي» على حد قول مادورو. وتراهن المعارضة عن طريق هذه المساعدات التي يحتاج إليها مئات الآلاف من الفنزويليين على اختبار ولاء أفراد القوات المسلحة والموظفين المدنيين للنظام، إذ يعود لهم في نهاية المطاف تسلمها وتوزيعها.
الصدامات الأعنف خلال المظاهرات الشعبية الأخيرة التي أوقعت عشرات القتلى ومئات الجرحى، كانت بين قوات الأمن وسكان الأحياء الفقيرة في العاصمة. هذه الأحياء التي وعد شافيز بإنهاضها، ما زالت إلى اليوم مرتعاً للشقاء والعنف تعيش على المساعدات التي يوزّعها النظام مع بداية كل شهر بالقطّارة، وللمرة الأولى بدأ سكانها يتجاوبون، ولو بنسبة محدودة، مع دعوات المعارضة للتجمّع والتظاهر ضد النظام.
ويقول كارلوس: «النقمة تجتاح كل الطبقات، وبخاصة تلك الفقيرة التي لم تعد تثق بوعود النظام. حتى الآن كانت المعارضة تفتقر إلى دعم الطبقات الشعبية لانعدام الثقة بها، لكن الأمور تغيّرت بسرعة وبشكل جذري ومفاجئ مع غوايدو. نظّم جمعيات صغيرة في كل أنحاء البلاد، تتواصل بصورة مستمرّة مع المواطنين بغض النظر عن اتجاهاتهم السياسية، ونجح في إيقاظ الاحتجاجات الشعبية التي كانت قد خمدت في العامين المنصرمين تحت وطأة القمع وبسبب تشتّت قوى المعارضة التي فرّ عدد كبير من قادتها إلى الخارج خوفاً من الاعتقال أو الاغتيال، مما أضعف ثقة المواطنين بها».
لكن كراكاس منقسمة أيضا بين شرقية وغربية. في الأولى يعيش سكّان الأحياء الميسورة، وفي الثانية أولئك الذين ينتظرون كل شهر وصول «صناديق الغذاء» التي يوزّعها النظام، وما زالوا، في أغلبيتهم، يدعمون مادورو الذي سلّح منهم مئات الآلاف لتشكيل ما يعرف بكتائب الدفاع عن الثورة. الثورة نفسها التي بعد عشرين عاماً، ما زالت عاجزة عن إطعام أبنائها.
في هذه الأجواء وعلى وقع الأنباء عن رفض مادورو زيارة وفد «مجموعة ليما» بعد اللقاء الذي عقدته في أوتاوا، وإدخال المساعدات الإنسانية التي تنتظر على الحدود الكولومبية، وإصراره على رفض أي مبادرة دولية للحوار، عقد البرلمان الفنزويلي جلسة عادية برئاسة غوايدو واعتمد قراراً برفض «أي حوار أو فريق اتصال من شأنه أن يطيل معاناة الشعب»، في إشارة واضحة إلى الاجتماع الذي يبدأ، اليوم الخميس، في مونتيفيديو عاصمة الأوروغواي، الذي تشارك فيه المكسيك وبعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بحثاً عن حل سياسي للأزمة الفنزويلية.
في ختام الجلسة أعلن غوايدو أن هدف المعارضة لم يتغيّر؛ «إنهاء حالة اغتصاب السلطة التنفيذية، ثم تشكيل حكومة انتقالية والدعوة لإجراء انتخابات حرة»، مستبعداً أي حوار مع النظام «بعد أن بلغ حجم السرقات أربعة أضعاف الاقتصاد الوطني». لكن بعض الأصوات التي تُعتبر «معتدلة» في صفوف المعارضة بدأت تدعو إلى عدم إقفال باب الحوار والوساطة، خاصة بعد ارتفاع منسوب الضغوط الدولية، السياسية والاقتصادية، على النظام، خشية جنوحه إلى العنف وجرّ البلاد إلى حرب أهلية مفتوحة.
الشرق الاوسط