ريفي للمدن : خطأ استراتيجي بحقّ جنبلاط…وباسيل فقاعة صابون
بعد “التسوية” التي أنتجت الحكومة الجديدة، والتي أبرمها “ظاهريًا” رئيس الحكومة سعد الحريري ووزير الخارجية جبران باسيل، انتقلت الطائفة السنيّة في لبنان إلى مرحلة المساءلة العميقة، حول مصيرها، في بلدٍ تراجع فيه منطق “المشروع السياسي” مقابل تقدّم منطق “الشركات والمصالح”. تحولات جذرية ضربت الطائفة في فترة زمنيّة قياسيّة، أفقدتها السيطرة على خطابها، نتيجة تسويات قيادتها “الزرقاء” (تيار المستقبل). فهي لا تعرف ماذا تريد أو ماذا يُراد لها. لا عناوين ولا مشاريع واضحة. تارةً تجد نفسها، تسير خلف الحريري صارخةً: “لا لهيمنة حزب الله والمشروع الإيراني”، ثم ما تلبث طورًا، أن تجد الحريري يُغيّب هذا الخطاب، لمصلحة تسويات لا تملك القدرة على فهمها واستيعابها أو تقبّلها. شعورالطائفة بـ”استغلال” قيادتها لها، مقرونٌ بشعورها بـ”مظلومية”، قد تتحمل جزءًا كبيرًا من مسؤوليتها.
هذا الواقع، لا ينفصل عن تحولات جذريّة أخرى، أصاب مشهد القيادات في الطائفة السنية. رموزٌ سقطت، وأخرى غابت أو غُيّبت، بعد أن تصاعد نجمها منذ “ثورة الأرز” في 14 آذار 2005. واحدٌ من أبرز هذه الرموز، كان اللواء أشرف ريفي. خسر ريفي معركته في الانتخابات النيابية في العام 2018، التي خاضها ضدّ تيّار المستقبل، بعد أن أصبح جناحًا معارضًا منفصلًا عنه. لكنّ خسارته، لم تكن عادية. فهي جاءت على هيئة هزيمة مدويّة للخطاب السّني “الشرس” والمناوئ لحزب الله. كأنّ هذا الخطاب، استنفد قدرته على التعبئة، فتحوّل إلى أهزوجة سياسية، لا طائل منها ولا جدوى. فأين هو ريفي اليوم؟
منذ أن اكتسب ريفي خبرةً بناها في إدارة مؤسسات الدولة، طيلة السنوات التي أمضاها في منصب مدير عام قوى الأمن الداخلي بين عامي 2005 و2013، إلى تسلمه حقيبة وزارة العدل في فترة 2014-2016، اشتهر بالشخصية المتمردة، وشكّل حالةً جديدةً نسبيًا في المشهد السياسي اللبناني، لا سيما أنّه نجح في تقديم نفسه على أنّه “من عامّة الشعب”، معتزًّا بانتمائه لعائلة طرابلسية فقيرة وعصاميّة، خلافًا للقاعدة “النخبوية”، التي حكمت تيار المستقبل بقيادة الحريري. أكثر ما يُعرف عن اللواء المتقاعد، هو موقفه الراسخ ضدّ حزب الله والنظام السوري وإيران، لا سيما في اللحظة “الانقلابية” التي قدّم فيها استقالته من وزارة العدل في العام 2016، على خلفية ما أسماه “هيمنة حزب الله على لبنان”، ثمّ بدا لاحقًا الخصم السنّي الأكثر مجاهرةً في التعبير عن معارضته للأمين العام لحزب الله حسن نصرالله والرئيس ميشال عون.
في مرحلة التسويات المصلحية الحالية، أسئلةٌ كثيرة تُطرح عمّا
بقي من خطاب هذا الرجل، في السياسة وفي الطائفة السنيّة، وإذا كان مستمرًا
في خياراته رغم “خسارة” أيار 2018.
“المستقبليون” ليسوا حريريين
يبدأ
ريفي حديثه مع “المدن” من توصيف واقع السنّة في البلد، انطلاقًا من فكرة
وجود “حريريين” (نسبةً لرفيق الحريري)، ما زالوا يشكّلون حالةَ سياسيةً
وازنةً ومؤثرة داخل الطائفة، وإن كانوا خارج الحكم في السلطة. فـ”ما نشهده
اليوم، لا يمثّل الحريرية السياسية، بعد أن أصبح تيار المستقبل تيارًا
نفعيًا، أجهض أصحاب القضيّة والمبدئيين، ولم يعد لهم مكان في اللعبة
المستقبلية الحالية”. ورغم أنّ العدد في الساحة السنيّة، وفق ريفي، يصبّ
لصالح المستقبل، لكنّ “العصب السّني ليس معه، وقد خسره التيّار نهائيًا منذ
التسوية الرئاسية في العام 2016”.
يؤيد ريفي نظرية أنّ تيّار المستقبل، بات أشبه بـ”الأسرة الحاكمة”، التي تمسك فيها العائلة مفاصل الطائفة. لكن، “لو كانت هذه الأسرة تأخذ الطائفة إلى الأمام، كنّا قدمنا لها التحيّة. وخلافًا لعهد رفيق الحريري، أصبحت الطائفة السنيّة في لبنان هي الأكثر ضعفًا، وتسير خلف طوائف أخرى، لترتيب المصالح على حساب الناس”.
يعتبر ريفي أنّ القانون الانتخابي الذي أفرزه حزب الله، والذي
يصفه بـ”القانون الهجين والمشبوه”، هو من قصم ظهر البعير، و”شلّح” الطائفة
السنيّة الورقة الميثاقية، بموافقة سعد الحريري، مقابل تقديم البلد على
طبق من فضّة للمشروع الإيراني. فما خسرته الطائفة السنيّة في هذا القانون،
هو “كرامتها وحقوقها ومساواتها مع الآخرين”. هذه المعادلة، يرفض ريفي
إلصاقها بالخلفية الطائفية، وإنما من خلفيةٍ وطنية، لأن البلد لا يستقيم
ولا يرتاح بهيمنة فريقٍ على آخر، ومن دون منطق التوازنات بين القوى الكبرى.
وهنا، يصوّب ريفي على التيار الوطني الحرّ، ويعتبر أنه سيتحمل مسؤولية
تاريخية أمام طائفته، لأنه أعطى الغطاء لسلاح غير شرعي، في سبيل تأمين
المصالح المشتركة.
وصاية حزب الله لن تدوم
في حديثه عن
إمساك حزب الله بزمام الحكم في لبنان، ينطلق ريفي من المثل الصيني: “الثابت
الوحيد أنّ كلّ شيءٍ متغيّر”، وإلى أن تتغير المعطيات الداخلية
والإقليمية. يسأل: من كان يحلم منّا أنّ يخرج السوري من لبنان؟ فـ”علينا أن
لا نعطي الشرعية لهيمنة المشروع الإيراني بقيادة حزب الله، مثلما كانوا
يفعلون أثناء الوجود السوري، حين روّجوا لنظرية: وجود مؤقت وضروري وشرعي.
الحالة السياسية في لبنان، حسب ريفي، تشبه إلى حدٍّ بعيد الحالة السياسية
في إيران: “حسن نصرالله هو المرشد الأعلى للجمهورية، أمّا باقي القوى،
فتحكم شكليًا وصوريًا فقط لا غير”.
ثمّة ما أوحى أنّ التسوية الحكومية نسفت التقارب المحتمل بين
الحريري وريفي، لا سيما أنّ الأخير أطلق مواقف داعمة لصلاحيات الحريري،
ومكتسبات الطائفة السنية في السلطة، انسجامًا مع مبادئه. إلّا أن “ما
شهدناه، ليس انبطاحًا وحسب، وإنما هو تسليم كامل لشروط حزب الله، في شراكة
موهومة وغير متساوية على الإطلاق”. أمّا الكلام عن ثنائية الحكم
بين الحريري – باسيل، فـ”هي هشّة وليست حقيقية، لأن البلد ممسوك فعليًا من
حزب الله، وجبران باسيل هو فقاعة صابون وأداة بيد الحزب ويحتمي به. كذلك
سعد الحريري، رضخ لشروطه تماشيًا مع سياسته الواقعية”.
عتبٌ على التخلّي السعودي
لا
ينفي ريفي أنّ السياسات الإقليمية، والخليجية تحديدًا، تتحمل مسؤولية
الضعف الذي أصاب مناوئي حزب الله في لبنان. وفي إشارةٍ للمملكة العربية
السعودية من دون أن يسميها، يعتبر ريفي أنه “منذ خمس سنوات، لم يشهد لبنان
مشروعًا عربيًا حقيقيًا، وإنما التخبط والغياب، دفع البلد ثمنه غاليًا”.
وهنا نسأل ألا يبرر ذلك للحريري بحثه وتفتيشه عن حمايةٍ لنفسه، في الداخل
والخارج، في ظلّ التخلّي السعودي عنه؟
بالنسبة لريفي، المصلحيون يبررون لأنفسهم كلّ شيء، بحجة أن لا
حول لهم ولا قوّة، إلا بالتعامل مع هذه الهيمنة والوصاية. وعليه،
فـ”ليتحمل سعد الحريري مسؤولية خياراته، أمّا نحن، فلن نعطي الشرعية لهيمنة
الحزب ووصايته، رغم أنّ سلوك الحريري في التعاطي مع قوى الأمر الواقع،
يُصعّب علينا مهمة تخليص البلد”. أمّا العتب الكبير على قيادة المشروع
العربي، فهو أنّه في ظلّ وجود مشروع إيراني يدعم حزب الله، “لم يكن المطلوب
أن يقدموا لنا سلاحًا، وإنما أن يستنهضوا البيئة المضادة للمشروع
الإيراني، وتكريس نوع من التوزان، ولو بقدرة سلميّة وديموقراطية، لاحتضان
البيئة السنية والدرزية والمسيحية الرافضة لتسليم البلد لحزب الله”.
خطأ استراتيجي بحقّ جنبلاط
يتطرق
ريفي إلى الأزمة الكبيرة التي وقعت بين وليد جنبلاط وسعد الحريري، ويعتبر
أنّ الأخير ارتكب خطأ استراتيجيًا بحقّ جنبلاط، من جملة أخطائه
الاستراتيجية الكبيرة، لا سيما أن العلاقة السنيّة – الدرزية، لم تكن يومًا
إلّا تكاملية وايجابية. فـ”من رافق رفيق الحريري، ومن رافق ابنه سعد منذ
ثورة الأرز، يعرف أنّ ثنائية جنبلاط – الحريري وتلاحمهما، مع المسيحيين
المبدئيين، أسس مشروع انتفاضة، كان يمكن أن ينتصر على مشروع حزب الله”. وما
فعله سعد الحريري مع جنبلاط أخيرًا، “هو خطأ استراتيجي فادح”. إذ ليس
مقبولًا أن نضحي بجنبلاط، وهو قائد طائفة وثورة، بعد أن بدا واضحًا أنّ
هناك أمر عمليات سورياً، لتحجيمه وخرق الساحة الدرزية. إلا أنّ سعد
الحريري، مشيَ في عملية التخلي عن جنبلاط، وتركه وحيدًا، مفضلًا مصالحه
المتقدمة عليه، التي ركّبها في باريس. وعلى الحريري، “أن يكون استراتيجيًا
وليس تفصيليًا. ولو حمينا وليد جنبلاط بوحدانية الطائفة الدرزية، كنا قد
حمينا أنفسنا بوحدانية الطائفة السنيّة”.
سقطةٌ كبيرة أخرى فعلها الحريري، بالنسبة لريفي، بتسليم ملف النازحين السوريين، لمن أسماه بـ”وزير النظام السوري صالح الغريب”. فـ”تخلي سعد الحريري عن ورقةٍ بهذا الحجم لم يكن مقبولًا أبدًا، وأن يستبدل معين المرعبي، الواضح بمواقفه، بزلمة النظام السوري، فهذا تخلٍ كبير قد ندفع ثمنه لاحقًا، رغم أنّ النظام السوري يغرق بمشاكل كارثية، وهم يبيعون لنا أوهامًا بعنوان عملية إعادة الإعمار”.
مشروعنا سيكون منظمًا
يبدو أنّ اللواء لا يعرف اليأس، رغم أنّ كلّ المؤشرات تسوق إليه. حاليًا، يشير أنّه ينظم “بيته الداخلي”، بعد المرحلة الانتقالية التي أعقبت الانتخابات. أمّا الدرس الذي تعمله من تجربته السابقة، هو أنّ مواجهة مشروعٍ منظمٍ لا يمكن أن يكون بحالةٍ عفوية. لذا، “نسعى لتقديم طرحٍ مبدئي ينقل حالتنا إلى التنظيم الفعلي، و نتحاور مع قوى تشبهنا ونلتقي معها بالمواقف”. فـ”نحن أولاد مؤسسات، نعرف كيف نخسر، كما نعرف كيف نربح”.
جنى الدهيبي/ المدن