راتب الوزير لا يكفيه
لم يقل وزير المهجرين غسان عطا الله سراً عندما أعلن أن راتب الوزير لا يكفيه. هو محقّ، لأن الراتب الذي يتقاضاه لا يؤهله للإيفاء بالالتزامات التي تترتب على اي مسؤول، لحظة وصوله الى موقع في السلطة، وفق معادلة لبنانية شعبية تقول: “من يريد أن يعمل جمّالاً، فعليه أن يرفع عتبة داره”.
لكن هذا الحال ينطبق على بلد طبيعي، تحكمه المؤسسات، وترتفع فيه الشفافية الى حدود مرتفعة جداً، بما يمنع الوزير، أو النائب، أو اي مسؤول من الاستفادة من موقعه، وتجيير نفوذه لمكاسب شخصية، وهو ما تحدث عنه رواد مواقع التواصل الاجتماعي الذي هالهم ما قيل، لمعرفتهم بأن النموذج اللبناني في ممارسة الحكم، يختلف عما يفرضه القانون.
وليس عطا الله حصراً، أو أركان الحكومة الحالية، أو قسم كبير من المسؤولين السابقين معنيين بهذا الكلام عن تجيير النفوذ لصالح المنفعة الشخصية. ثمة نواب ووزراء بسطاء، يشبهون الناس. فالمعنيون في مصرف معروف، والعاملون في احدى المحاكم المدنية، يتندرون حول نائب أرسل اليه المصرف انذاراً لتأخره عن دفع ثلاثة سندات مستحقة عليه لدفع القرض الذي استلفه من المصرف. وهي حالة مقرونة بنائب آخر، يبيع ما ورثه من أراضٍ، لدفع مصاريف تعليم أولاده المرتفعة جداً.
وفي المقابل، ثمة نواب لم يُسألوا عن كيفية دفع اثمان بيوتهم الباهظة الثمن، أو اقتناع سيارات تفوق قيمتها مجموع رواتبه السنوية لمدة عامين متتالين. وثمة اسئلة عن وزراء، أو موظفين في مواقع حساسة، بنوا ثروات ضخمة، ويشتري أبناؤهم بآلاف الدولارات من المتاجر الفارهة، وينفقون على سفر عائلاتهم ملايين الليرات، ويعيشون البذخ…
هذا لم يعد سراً، وقد تحدث عنه وزير المال علي حسن خليل في المقابلة الاخيرة من برنامج “صار الوقت” ليل الخميس الماضي، وتحول الى مقاطع تلفزيونية (ينشرها تلفزيون “الجديد” منذ ايام) ومقاطع فيديو يتداولها رواد مواقع التواصل، للإضاءة على مكامن هدر و(فساد استطراداً) بارقام يكشفها وزير المال.
انطلاقاً من ذلك، لا يكون تصريح الوزير عطا الله نفاقاً. فالملايين الثمانية التي تقاضاها الوزير، أو العشرة التي يتقاضاها النائب، لا تكفي بالفعل لفتح البيوت أمام مطالب الناس، ودفع كفالات قضائية عن بعض السجناء غير القادرين على دفعها، ولدفع هدايا لعشرات المتزوجين الذين يدعون المسؤول الى حفلات زفافهم..
لا تكفي لتقديم هدايا في الأعياد لمرافقين أربعة فرزتهم الحكومة لحمايتهم، ولا لتبرعات المسؤول أو زوجته، كوُجهاء، في الصبحيات والاحتفالات الخيرية. هذا حق، لكن بناء هذه الشعبية، لا يكون من جيوب اللبنانيين. بل يجب أن يكون من الجيب الخاص، وهو ما لا يتحقق.
اعتاد المسؤولون نمط حياة مختلف، منذ وصولهم للسلطة. ومن أجل التماهي مع الواقع المستجد، اعتادوا الاستفادة من النفوذ لتلبية متطلبات الواقع. يخلط هؤلاء بين الدور السياسي أو الإداري (الوزراء بشكل أخص)، وبين ضرورات بناء الشعبية التي تحتاج، في بلد مثل لبنان، للكثير من المال. بات الواقع عبارة عن دائرة مكتملة: “المال يأتني بالنفوذ، والنفوذ يأتي بالمال”. دائرة تتكامل، خلافاً للأعراف السياسية والوظيفية والادارية المعمولة في بلدان تتسم بالشفافية. من هنا، يصح تقدير الوزير، وقبله نواب كثيرون أعلنوا رفضهم لخفض رواتبهم، بأن الراتب الحالي لا يكفي.
هو بالفعل لا يكفي الوجاهة التي يحاول بناءها. ولا يكفي تكريس الحضور الشعبي للبقاء في الموقع السياسي. الراتب (الزهيد بحسبهم) لا يكفي لضرورات تلبية طموحاته السياسية. لكنه، يعادل ما يزيد عن عشرة أضعاف ما يتقاضاه الفقراء من الناخبين، وخمسة اضعاف ما يتقاضاه الموظفون، وضعفَي ما يتقاضاه أي وزير أو نائب في العالم المتحضر.
ما قاله الوزير، يستحق التمعن. وما يقوله الناس، يستحق التوضيح. ليس الراتب القانوني هو ما يرهق خزينة الدولة. المنظومة الفاسدة هي التي ترهقها. المحسوبيات التي تدفع نائباً لبناء وجاهة على حساب الدولة، وماليتها، والرسوم الجمركية. هنا مكمن الهدر، ولا ريب في أن تطويقه، ومنع المسؤول من استغلال نفوذه، سيكون أكثر نجاعة من استخدام رواتب الوزراء والنواب ذريعة تمهيدية لتخفيض رواتب الفقراء.
المدن