عين دارة: جرائم تستحق السجن المؤبد لمرتكبيها
بعد يأس أهالي عين دارة من مجلس شورى الدولة وقرارته، وتلاعب إدارات
الدولة بمصير منطقتهم وبيئتهم ومستقبلهم، سيتوجّهون إلى القضاء العادي
ونيابته العامة، كي يتحمّل كل المعنيّين، وزارات وبلديات وأفراد، مسؤولية
أفعالهم. فالجرائم البيئيّة المرتكبة، وتزوير الوثائق، والاعتداء على
المشاعات، والتلاعب بالقوانين، وإخفاء وثائق، ومنح براءات ذمّة مالية،
والتخلّف عن دفع الرسوم والتهرّب المالي، يفترض أن تؤدّي بمرتكبها إلى
السجن المؤبد، وفق ما قال منسق هيئة المبادرة المدنية في عين دارة، عبد
الله حداد، في حديث إلى “المدن”، مضيفاً بأنّ جميع هذه المخالفات موثّقة
وسيذهبون بها إلى القضاء، يوم الإثنين المقبل.
سياسات الإنكار
لا تقتصر معاناة أهالي عين دارة على معمل الإسمنت المزمع إنشائه، وما
سينبعث منه من غازات سامة ستتحوّل بدورها إلى مادة كبريتيّة حمضيّة، تودي
بمحمية أرز الشوف إلى التهلكة وإلى تلوّث المياه الجوفية، حين تمتزج بمياه
الشتاء. بالإضافة إلى أنّ “المرامل والمقالع والكسارات، لا سيما تلك التي
يمتلكها آل فتوش، استنفذت المنطقة بيئيّاً، وانتهكت ملايين الأمتار
المربعة” من جبالهم. وكل ذلك حصل “عبر تزوير الوثائق، لتحويل أملاك عامة
ومشاعات إلى أملاك خاصة، والتلاعب بالتراخيص التي لا تستوفي الشروط
القانونية”. أضف إلى ذلك أنّ “سياسات الدولة منذ العام 1996، قائمة على
إنكار وجود مشاعات عين دارة ضمن محميّة أرز الشوف، وإنكار القانون القاضي
بجعل مشاعات عين داره والمناطق المحاذية لها ضمن نطاق الحماية المحدد في
قانون إنشاء المحمية الذي أقرّه المجلس النيابي في العام 1996” وفق كلام
حداد.
الشورى ومحاباة آل فتوش
وعن مصنع إسمنت
الأرز، الذي أبطل مجلس شورى الدولة قرار إيقافه المتّخذ من قبل وزير
الصناعة، وائل أبو فاعور، في الآونة الأخيرة، اعتبر حداد، أنّ “المجلس يصدر
قرارات فيها محاباة لآل فتوش منذ العام 2006. يومها أصدر قراراً يقضي
التعويض عليهم بمبلغ قدره 250 مليون دولار جرّاء إقفال الدولة للمقالع
آنذاك، رغم علمه أنّ رخصة آل فتوش هي لألفي متر مربع، فيما هم انتهكوا مئات
آلاف الأمتار، في تعدٍّ على القوانين ومحميّة أرز الشوف أيضاً. هكذا،
وعوضاً عن معاقبتهم على الجرائم المرتكبة، حكم شورى الدولة لهم بالتعويض
المالي”!
أسوأ من ذلك، قبل “صدور الترخيص لمعمل الإسمنت في أيلول 2015،
من وزارة الصناعة في عهد الوزير حسين الحاج حسن، كان من المفترض واجباً
إنجاز تقرير خاص لتقييم الأثر البيئي، الذي يشمل دراسات إداريّة حول الوضع
القانوني للأراضي وسياسات الدولة ووضع المحميّات المحيطة وتقرير تقني حول
انبعاثات الغاز… لكن التقرير اختفى. كيف ولماذا ومن أخفى التقرير؟ لا أحد
يجيب. بل، وحسب الأصول القانونية، كان يفترض عقد جلسة مناقشة عامة يشارك
فيها أهل المنطقة، لكنها ذهبت أدراج الرياح، بتواطؤ مع رئيس البلدية السابق
سامي حداد وبيار فتّوش. فقد أخفى رئيس البلدية، الذي تلقي رشاوى من بيار
فتّوش، الدعوة إلى تلك الجلسة، وتحوّلت إلى جلسة خاصة في وزارة البيئة،
التي كان يتولّاها حينها محمد المشنوق”. ليس هذا وحسب، بل تمّ “إخفاء تقرير
تقييم الأثر البيئي ومنع أصحاب المصلحة من الاطّلاع عليه، رغم أنّ قانون
البيئة يقرّ بحق العامة في الاطّلاع عليه، ويودي بمن أخفاه إلى السجن
بعقوبة أقلّها ستة أشهر”.
ووفق حداد، عندما قدّموا الطعن بالترخيص، طلب
شورى الدولة بقرار إعدادي من وزارة البيئة إيداع تقرير التقييم، ومن وزارة
الصناعة إيداع الملف الإداري الكامل في قلم المحكمة، لكن الوزيرين الحاج
حسن وطارق الخطيب، وبتحريض من هيئة القضايا، تمرّدا على قرار مجلس شورى
الدولة، ورفضا إيداع الملفات. وصدر حكم الشورى من دون النظر في الملفات،
بتخطٍّ واضح لحق الناس الدستوري في الاطّلاع عليها أيضاً.
أما وكيل بلدية عين دارة، المحامي نشأة الحسنية، فلفت إلى أنّ البلدية طالبت بمراجعة الملف وإبطاله، عندما كان رئيس الغرفة في مجلس شورى الدولة وزير العدل الحالي، ألبير سرحال. وطلب الأخير الملف الإداري من وزارة الصناعة، الذي يجب أن يحتوي على جميع المراسلات والمستندات في ملف الترخيص، وتقييم الأثر البيئي من وزارة البيئة، لكن الوزارتين استنسبتا ما يفيد مصلحتهما في الوثائق المقدّمة، لا ما يفيد العدالة والحقيقة. وتغاضى شورى الدولة عن الأمر، مستنداً إلى رأي الاستشاري القائل بأنّ الإدارة تستطيع أن تستنسب المستندات التي تراها ضرورية، رغم كونه من حق المتخاصمين والرأي العام الاطلاع على كامل الملف.
نشر الأكاذيب
وحول ملابسات هذه الملفات في الوزارتين، لفت حداد إلى أنّ لدى “المبادرة المدنية” “تساؤلات حول ممارسات الوزير المشنوق، الذي نفى وجود تقرير تقييم أثر البيئة والترخيص في تصريح لـ”صحيفة النهار” في العام 2016، رغم أنّه كان قد أرسل قبل ستة أشهر من هذا التصريح كتاباً بالموافقة المبدئية إلى وزارة الصناعة، ما يعني أنّ اللجنة التقنية في وزارة البيئة وضعت التقرير التقييمي”. أما ملاحظاتهم على الحاج حسن فتكمن بكونه “شارك في نشر الأكاذيب، إذ صرّح على أكثر من وسيلة إعلامية أنّه منح بيار فتوش الترخيص لأنّ الأخير لديه رخصة لمعمل إسمنت منذ العام 1994 إسوة برخصة المقالع، التي يملكها. لكن الحقيقة أنّ فتوش لديه رخصة لمقالع ومعمل احجار باطون وكسارة، على مساحة الفي متر مربع فقط. وقّدمنا الوثائق اللازمة لمجلس شورى الدولة، لكنّ هناك كذبة كبيرة وعمليّة تزوير مفادها أنّ فتوش لديه الرخص، بكل المقالع وعلى مساحة مليون متر مربع ورخصة لمعمل الإسمنت. كذبة انتقلت من إدارة إلى إدارة وبوثائق رسمية مزوّرة، بنتيجتها صار فتّوش يملك التراخيص اللازمة وليس بحاجة إلا إلى دراسة الأثر البيئي، فيما السؤال الأساسي يكمن حول كيفية الانتقال من رخصة معمل أحجارة باطون إلى شرعنة جرائم قائمة على مساحة مليون متر مربع، وقد تتمدّد لتدمير مساحة أربعة ملايين متر مربع، والأسوأ وجود بدعة جوهريّة تقرّ لهم بالعمل حتى انتهاء المخزون”.
تزوير ووصاية سورية
بدوره لفت الحسنية، وهو قيادي في الحزب التقدمي الاشتراكي، إلى أنّ أبو فاعور عندما رأى هذه المخالفات والتغطية على عملية التلاعب في الترخيص، تحديداً في الملف البيئي، وبعد اطلاعه على رأي وزارة الطاقة حول المياه الجوفية، ألغى الترخيص. ورغم أنّ مجلس شورى الدولة أبطل قرار أبو فاعور، إلا أنّ الإدارة تستطيع أن تتراجع عن الترخيص كونه لا يمكن منح حق مكتسب مخالف للقانون. فالترخيص يستند إلى قرارات قضائية وإلى قرار استثنائي صدر عن مجلس الوزراء في العام 1994، اتّخذ في ظل الوصاية السورية. كما أنّ شورى الدولة يتناسى أنّ الأحكام التي أعطيت لآل فتوش حقوق مكتسبة كانت محدّدة بألفين وخمسمئة متر مربع فقط، لكن اليوم يوجد ملايين الأمتار تُنتهك من دون أيّ ترخيص قانوني. وحتى لو أصدر مجلس الوزراء ترخيصاً استثنائياً لإنشاء المقالع والكسّارات، واعتبر أنّ جبال عين دارة صالحة لها، لكن على الأخيرة الخضوع لقانون المقالع والكسارات في نهاية المطاف، أي لاستصلاح الأراضي وليس انتهاكها. زد على ذلك أنه في العام 1997، وفي العام 2004 صدرت مراسيم لترتيب وتصنيف الأراضي اللبنانية، وعين دارة غير واردة فيها. فالمناطق التي ينوون بناء المصنع فيها مصنّفة للزراعة والسكن والسياحة البيئية، وهناك أراضٍ أخرى قيد الدرس، لكن تمنع فيها المقالع والكسارات، إلا في حال صدور قرار من المجلس الأعلى، لكن مجلس الشورى اعتبر إنّها خاضعة لقرار مجلس الوزراء الذي اعتبرها مناطق صناعية فئة أولى. كما أنّ قرار مجلس الوزراء أتى ليحدّد العقارات وأرقامها لكنّ عملية تزوير حصلت وبالتواطؤ مع وزارة البيئة آنذاك، على حد قول الحسنية.
بهلوانيات
وعن دور وزير البيئة الجديد فادي جريصاتي ومساهمته في إمكانيّة معالجة هذه المخاطر على أهالي المنطقة، أكّد حداد إنّهم شدّدوا على الوزير بأن قرار التمديد لمهلة تسعين يوماً للمقالع والكسّارات والمرامل الصادر في الآونة الأخيرة، عبارة عن مهل معطاة لجرائم بيئية، وقد أطلعوا الوزير عليها خلال زيارته للمنطقة الأسبوع الفائت. لكن للأسف “كنا نتوقع منه القدوم مع مفتّشي وزارة البيئة لقمع الجرائم البيئية، وليس لتحضيرنا لمساومة في كيفيّة تحصيل الرسوم من الكسارات ودراسة الطريقة الفضلى لمنح التراخيص”. وأضاف “لم نتوقع منه تلك البهلوانيّات في طرح فكرة تراخيص ممكنة في محميّة، هي عبارة عن جرائم بيئية. فهو شاب واعد محب للبيئية ويمارس ركوب الدراجات، وتأمّلنا منه حلاً للموضوع، لكنه ختم زيارته بشرب فنجان قهوة عند بيار فتوش”. وتابع “اعترضنا على رخصة جديدة معطاة لجهاد العرب في عقار محاذٍ لمشاعات عين دارة، أي محمية أرز الشوف، وطلبنا الاطّلاع على تقرير الأثر البيئي لمصنع إسمنت الأرز، لكن من دون جدوى”. واستطرد منتقداً، “ممكن أن يكون الوزير كشخص ممتاز، ولدينا لقاءات وحوارات معه، لكنه ينفّذ سياسات الدولة القائمة على المحاصصة السياسية، التي رست بين الأطراف السياسية، وهو ليس خارجها”.
جدّية الوزير
وتعليقاً على كلام حداد، أكد مستشار وزير البيئة شاكر نون، أنه اجتمع مع أعضاء “المبادرة المدنية” وحاول طمأنتهم، لكنّ البعض يطلب طلبات مستحيلة حول كيفية تنظيم المشاعات وضمّها إلى المحميّة، خصوصاً أنها متباعدة عن بعضها البعض مسافات كبيرة. وأضاف متسائلا: ماذا يريدون أكثر من جدية الوزارة، التي أصدرت قراراً في إقفال المرامل نهائياً، وفتح باب الاستيراد من دون رسوم جمركيّة للرمال، من مصر وسوريا، ونقل الكسارات غير المرخصة وغير المطابقة للشروط إلى السلسلة جبال لبنان الشرقية؟ فلدى المرامل مهلة ثلاثة أشهر لإقفالها نهائياً، وتعمل الوزارة على مخطّط توجيهي عام سيصدر عن مجلس الوزراء يمنع أي كسارة خارج المخطّط التوجيهي. وحول الرخصة الجديدة لجهاد العرب، اعتبر إنّ الأمر ليس صحيحاً. ثمة تراخيص للمتعهدين كلزوم مشاريع وهذه ستبقى موجودة، بمعنى أنّ المتعهّد الذي يقوم بشقّ طريق يسمح له تركيب كسّارة لتنظيم العمل والتخلّص من الصخور الناتجة لزوم الأشغال. لكنّ التراخيص خارج إطار المجلس الوطني للمقالع والكسّارات غير موجودة نهائياً.
تهرّب من الرسوم
وبعيداً من الملف البيئي، لفت حداد إلى أنّ للقضية أبعاداً مالية وتخلّفاً عن دفع رسوم. إذ “كان يفترض بفتوش دفع ما لا يقل عن مليار دولار في السنوات العشر السابقة، فقط كرسوم بلدية، لكن جل ما دفعه بعض الرسوم بقيمة لا تزيد عن عشرين ألف دولار سنويا”. فعلى سبيل المثال عندما لجأت “المبادرة المدنيّة إلى النيابة العامة المالية، صدرت قرارت قضائية الزمت البلدية تكليف جميع مقالع المنطقة 170 مليون دولار سنوياً من بينها 100 مليون آل فتوش، لكنّها لم تحصّلها بعد. وتتمنع البلدية عن ممارسة حقها القانوني في التكليف عن السنتين السابقتين. كما أنّه إذا كانت الدولة جدية في معالجة العجز المالي في ميزانيتها، يمكنها تحصيل ما لا يقل عن خمسة مليارات دولار من المقالع والكسارات سنويا على مساحة لبنان. لكن من هم في السلطة قبضوا الثمن من تلك العائلة”.
المدن