“ذئب منفرد” أم سراحين الذئاب؟
قرار المجلس الدستوري إبطال المقطع الأخير من الفقرة “ب” من
المادة الثانية من القانون المعجّل رقم 129، المتعلق بخطة الكهرباء، يشي
ببارقة أمل لحماية اللبنانيين وأموالهم، من شطط السلطة وتسلطها على مرافق
البلاد والعبث بالدستور والقوانين. ما كان القانون المذكور ليمر في مجلس
النواب، لولا نهج التسويات القائم بين الكتل السياسية، الذي أوصل البلاد
إلى ما وصلت إليه. كتبنا في حينه، كيف يشرّع قانون للكهرباء يسمح بأن
“تُستثنى في مراحل إتمام المناقصات تطبيق أحكام قانون المحاسبة العمومية
وسائر النصوص ذات الصلة بأصول التلزيم، التي لا تتفق مع طبيعة التلزيم
والعقود موضوعها”. القانون كما أُحيل من مجلس الوزراء وأُقر في مجلس النواب
كناية عن تعليق الدستور في قضية كالكهرباء، تُعد أسوأ فضيحة بحق الوطن
واقتصاده وناسه وخزانته. يعني مطلوب لخطة بمليارات الدولار الأميركي، أن
تتجاوز صراحة وجهارة كل أصول التلزيم. بدءاً من إدارة المناقصات، مروراً
برقابة ديوان المحاسبة. هذا هو الكيد الإصلاحي وتزوير الحقائق بعينه، وقت
يتوقف فيه البلد أمام إقرار موازنة وخفض العجز من فلس الأرملة والرواتب
ومعاشات التقاعد.
تغييب الهيئة الناظمة
المجلس الدستوري
الذي أبطل الفقرة المعيبة، كان يعلم بوجود قرار سياسي كبير حتى يتبنى مجلس
الوزراء مشروعاً كهذا لخطة الكهرباء ويقره مجلس النواب. ولو ردّ المجلس بعض
ما ورد من مواد ملتبسة في القانون، لما تردد “الإصلاحيون” في تحميله وزر
تعطيل خطة الكهرباء. من بين تلك المواد التي تحتمل الشكوك، المادة الأولى
من القانون 129 التي مددت العمل بأحكام القانون 288/2014 سنوات ثلاثاً. هذا
يتيح استمرار إصرار وزارة الطاقة والمياه على عدم تأسيس الهيئة الناظمة
لقطاع الكهرباء، في ظل تغييب مجلس إدارة مؤسسة كهرباء لبنان، واستفراد
وزراء الطاقة والمياه بشؤون المؤسسة. وحسب القانون، مجلس إدارة المؤسسة هو
من يضع الخطة. الوزارة سلطة وصاية سياسية عملها في مجلس الوزراء. خلافاً
لذلك، لبات وزراء العمل، والنقل، والمال يديرون مباشرة الصندوق الوطني
للضمان الإجتماعي، ومرفأ بيروت والريجي. ينسحب ذلك على كل المصالح
المستقلة.
رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل قال أن خطة وزيرة الطاقة والمياه ندى البستاني هي نفسها التي قدمها في 2010 بصفته الوزير السلف. أضاف، “استعجلت القوى السياسية عرضَ عضلات أبوّتها للمشروع”. معه حق رئيس “تكتل لبنان القوي”. وزارة الطاقة والمياه مصنع الفشل بامتياز. ومثلها وزارة البيئة. ويريد الوزير القوي في لبنان البائس، أن يعمم التجربة على إدارات في الدولة لم تصلها مخالبه بعد. لم يعلق باسيل على قرار المجلس الدستوري. وصمتت الوزيرة. في بلاد الأوادم النزهاء، يستقيل وزير، وتحاسب حكومة تتوقف مشاريعهما بقرار من أعلى سلطة قضائية لعلة “الغموض”، على ما جاء في إبطال الفقرة المعنية من القانون 129. لكن مجلس النواب هو الذي شرّع القانون؟ هنا نعود إلى صلب أزمة النظام السياسي المفلس. وزراء، وحكومات، ومجلس نواب في حقيبة واحدة. سيعيدون تأليف المجلس الدستوري الذي انتهت ولايته. ويركبون مجالس قضائية “وصفة ناجعة” لبلد يفصل دستوره بين السلطات ويقول بالقضاء سلطة مستقلة. ليس هذا المهم. المهم القاضي. الرجل الذي ينطق بالحكم. نطق المجلس الدستوري. بقي ديوان المحاسبة. وما عنده من أدلة وثُبت مرجع ليس عند غيره. صبور ديوان المحاسبة. اللبنانيون ينتظرون منه أن يتكلم لتبيضّ وجوه وتسودّ أخرى. نعم، هذه حقبة تعليق الدستور وتبخيس مؤسسات فؤاد شهاب. وحال طوارئ على الأوادم والنزاهة والفضيلة. ولبنان يبحث عن رجل وحسب. كان نجيب محفوظ يردد بين خلاّنه، لا تأبهوا لعبارة “العدل أساس الملك” ترونها في المحاكم. أعرف لصوصاً كثيرين يكتبون على مكاتبهم “هذا من فضل ربي”!
إلى الأقلية النيابية
نتوجه إلى أقلية معدودة في مجلس النواب نحسبها وصلت من خارج السياق الانتخابي التقليدي. المجلس شرّع الإنفاق على القاعدة الإثني عَشرية حتى نهاية تموز، بعد أن انتهت فترة الإنفاق الأولى المماثلة في نهاية أيار. ويعتقد المجلس إن موازنة 2019 قد تقر في نهاية تموز بعد عبورها لجنة المال والموازنة. سيكون بين أيديكم واقعياً موازنة خمسة أشهر من السنة. مع ذلك فوكالات التصنيف الدولية بدأت التشكيك بتحقيق خفض العجز بواقع 7.59 في المئة. وقد بني الخفض على سيناريوات معظمها متضارب في الوسائل والأهداف. ومشكوك في قدرة الدولة على تنفيذه لاسيما موضوع التهرب الضريبي والجمارك والتهريب عبر الحدود اللبنانية السورية. ثم أن الموازنة الإنكماشية في طبيعتها لا تنتج نمواً يبقى الفيصل وركيزة معيارية لخفض العجز إلى الناتج. نقول للنواب الجدد من خارج عباءة السلاطين، أن اعملوا على رؤية اقتصادية شاملة مالية واجتماعية ونقدية، تتبناها الحكومة وتكون موازنة 2020 لبنتها الأولى. وأن تلزموا الحكومة بخطة موحدة تقدمها إلى مجلس النواب في ما يتصل بالعجز الحقيقي المتضمن ديوناً على الدولة متوجبة الإداء، ساقطة من مشروع قانون الموازنة، ومصادر تمويلها. والتمسك مرة واحدة ونهائية بمندرجات الدستور والقوانين لتلزيم المشاريع. وإطلاق يد مؤسسات الرقابة المالية والإدارية. خصوصاً في مرحلة تنفيذ البرنامج الاستثماري من نحو 21 مليار دولار أميركي بدعم سيدر وبنفقات استثمارية محلية. هذا في حال اقتنعت دول سيدر بكفاية الموازنة ورصانتها. تابعوا خطة الكهرباء ثقب الدين الأسود من نحو 40 مليار دولار أميركي.
السموم البغيضة
القضية ما عادت موازنة ومنع الإنهيار المالي فقط. هناك من يدفع البلد إلى التهلكة؟ هذا ما يهجس به اللبنانيون اليوم. كل ما نشهد يشي بذلك. أخطر ما في الأمر أن القابضين على السلطة ليسوا خليقين بإدارة مزرعة ولا دكّان. هم الذين ينفخون في الوقيد. “ذئب منفرد هو الذي نفّذ جريمة قتل العسكريين ورجال الأمن في طرابلس”. فاطمئنوا أيها اللبنانيون! نجمع الذئب فنحصل على ذئاب. في “وطن سراحين الذئاب تسوسه” عنوان قصيدة للشاعر فؤاد جرداق في ثلاثينات القرن الماضي، تناول فيها الطائفية وزعمائها. تابعوا تصريحات سبقت الجريمة تفوه بها مسؤولون معنيون مباشرة بما حدث. وقد كان مهولاً ولا يصدق أن تتحول المناسبة لبخّ السموم البغيضة بين أجهزة الدولة ومؤسساتها، المسؤولة المباشرة عن أمن الناس والوطن. في هذه البيئة تنبت الذئاب فرادى وسراحين في الأمن والمال والإجتماع.
المدن