اغتيال سليماني: حزب الله يتشدد سياسياً ويهدأ عسكرياً
يمكن تشبيه قاسم سليماني بعمود الخيمة الإيرانية فوق الدول العربية. هو مهندس الوجود الإيراني في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن. معاونوه، ومن هم أدنى منه رتبة، أعلنوا أكثر من مرّة أن إيران سيطرت على أربع عواصم عربية.
وجهت واشنطن ضربة إلى عمود هذه الخيمة، بهدف الإيحاء
بالاستعداد لهدمها تمزيقها. إنها ضربة تغيير قواعد اللعبة مع إيران، ولن
تقتصر عليها فقط. ستطال لبنان والعراق والمنطقة كلها. خصوصاً أن سليماني
اغتيل في العراق بعد وصوله إلى بغداد قادماً من لبنان عبر سوريا. والأكيد
أن لقاءاته السرية في لبنان كانت ذات أهمية وبعد سياسي واستراتيجي للمرحلة
المقبلة.
طائرات الضاحية
اغتيال قاسم سليماني
لم يأتِ من محاولة أولى بالتأكيد. في إحدى مرّاتها ربما كان يراد للبنان أن
يكون المسرح. وهنا لا بد من العودة إلى العملية التي نفذتها طائرتان
اسرائيليتان في الضاحية الجنوبية لبيروت قبل أشهر. بعدها أعلن أمين عام حزب
الله السيد حسن نصر الله، إن إسرائيل أرادت استهداف شخصية مهمة، نحن
نعرفها وهم يعرفونها. لكن العملية فشلت، ويتوجب الردّ عليها. فهل كان يومها
سليماني هو المستهدف؟ خصوصاً أنه حينها كان في لبنان وانتقل منه إلى
العراق وسوريا. بعدها، نفذ الإسرائيليون أكثر من عملية ضد القوات
الإيرانية في سوريا، وصولاً إلى عملية “القائم” قبل أيام، التي استهدفت
قيادات من الحشد الشعبي والحرس الثوري، رداً على مقتل شخص أميركي في كركوك.
باغتيال قاسم سليماني، يقول الأميركيون إنهم خلعوا القفازات.
لم يعد استهداف إيران يتم عبر استهداف حلفائها، أو من قبل الضربات
الإسرائيلية، إنما القوات الأميركية هي التي تتولى توجيه الضربات بنفسها
لشخصية محورية بالنسبة إلى إيران، المصدّرة لثورتها والباسطة لنفوذها في
المنطقة والطامحة إلى توسيعه أكثر. الحسابات الأميركية متعددة ومتداخلة.
لكن الأكيد أن واشنطن أرادت استعادة هيبتها في هذه الضربة، وتهشيم الهيبة
الإيرانية. دونالد ترامب سيكون أكبر المستفيدين قبل الانتخابات الرئاسية.
سيقول للأميركيين إنه الأقوى الذي أنهى تنظيم داعش وقتل زعيمه، وقتل أيضاً
الشخص الإيراني الأقوى في المنطقة العربية. سيكون لذلك مردود لصالح ترامب
من حلفائه العرب.
الثأر بتأنٍ
أراد ترامب الرد
على الاستفزازات الايرانية المتكررة ضد واشنطن في العراق، وآخرها الهجوم
على السفارة الأميركية في بغداد. فواشنطن تبنّت العملية سريعاً، في إعلان
مباشر منها أنها غيّرت اللعبة وقواعدها، وانتقلت إلى مرحلة جديدة. في
المقابل، كان الإيرانيون يتعاطون مع الأميركيين عندما يلجؤون إلى تنفيذ أي
ضربة لهم، وفق توقعات لردود فعل معروفة سلفاً. بعد اغتيال سليماني، لعبة
حافة الهاوية تغيرت وأصبح اللعب في الهاوية نفسها وليس على حافتها. مع ذلك،
في هذا الوقت أكد المسؤولون الأميركيون، من بينهم وزير الخارجية مايك
بومبيو، أن الولايات المتحدة لا تريد التصعيد أو الدخول في حرب. وهذا فحوى
الرسالة الأميركية إلى إيران نقلتها عبر سويسرا، بالتزامن مع سلسلة اتصالات
دولية للجم تصعيد الأوضاع.
إيران أيضاً، لا تريد الدخول في حرب، لكنها تبحث عن عمل أمني ثأري مشغول بتأن لا يفضي إلى الحرب. فما حصل يمثّل ضربة قوية وقاصمة للإيرانيين. وسيكون من الصعب التعويض عنهاز لكن أي عملية انتقامية ستقوم بها إيران تؤدي إلى مقتل أميركيين سيحتم رداً أميركياً عنيفاً من قبل ترامب.
طبعاً الهدف الأميركي النهائي هو الضغط إلى أقصى الحدود على
إيران لجلبها إلى طاولة المفاوضات. بمعنى حرمانها من أي خيار، إلا التفاوض
وتقديم التنازلات أو الدخول في حرب مع استمرار العقوبات والحصار والعزل.
سلوك حزب الله
عملية
الاغتيال تعني أن الأميركيين يباشرون مرحلة ما بعد العقوبات الاقتصادية.
وطبعاً، إيران سترد بضربة دقيقة ومركزة، لا تهدف إلى توريط المنطقة بحرب
مفتوحة، بل الاكتفاء بمبدأ ضربة مقابل ضربة، أو بأقصى حدّ استعادة مرحلة
الثمانينات، في العمليات المتنقلة التي حصلت بين الإيرانيين والأميركيين.
وراهناً قد يتولى جزء من هذه العمليات حلفاء إيران في اليمن والعراق
وسوريا. أما لبنان، حسب المعطيات المتوفرة حالياً، فسيكون محيّداً عن هذا
الصراع، طالما أن الأمور لن تتطور دراماتيكياً. وسيرد حزب الله سياسياً
بتكريس نفوذه أكثر، سواء بتشكيل حكومته، أو بالتشدد ضد معارضيه للاستمرار
في إخضاعهم وتطويعهم.
تريد واشنطن من هذه الضربة تغيير سلوك إيران وحلفائها في المنطقة، وضبط مناطق ومواقع النفوذ. ولذلك غيّرت قواعد اللعبة. وهذه المعركة ستأخذ وقتها على شاكلة عمليات أمنية. ستسعى واشنطن لدفع إيران إلى التراجع، بينما سترفع طهران من شعارات محاربة أميركا لإخراجها من العراق. وستعمل دول عديدة على مفاوضات بين الطرفين، فتحقق عبرها الولايات المتحدة أهدافها الاستراتيجية. وقد تعلن الانسحاب من العراق على غرار انسحابها من سوريا. وقد يدّعي بعدها الإيرانيون الانتصار و”تحرير العراق”.
هكذا تستمر اللعبة العنيفة والرقص القاتل على مسرح الجغرافيا السياسية العربية المنتهكة.
منير الربيع – المدن