لبنان في السعودية.. عودة قوية أو خسارة نهائية
قبل سنوات، فعّلت المملكة العربية السعودية حراكها على الساحة
اللبنانية بنفحة انفتاحية على مختلف القوى. أُجريت لقاءات متعددة مع
الشخصيات السياسية السنّية على تنوّعها. وكان الشعار يومها، أن المملكة
تريد الانفتاح على الجميع. وانطلاقاً من حرصها على لبنان، لا بد من التواصل
مع مختلف مكونات البلد، خصوصاً مع الطائفة السنية وممثليها. إلى جانب هذا
الانفتاح، والعلاقات التي بنيت، وتخللتها زيارات لشخصيات كثيرة إلى
المملكة، بقيت السعودية حريصة على علاقة ممتازة بالرئيس سعد الحريري، بوصفه
الزعيم السني الأول. لكن من دون تهميش أي شخصية أخرى.
الحال الحرجة
لا
تزال المملكة حريصة على هذه العلاقة بالحريري، على الرغم من وجود اختلافات
أو ملاحظات لدى الطرفين على بعضهما البعض. وقد اعترت العلاقة شوائب عديدة.
لكن في النهاية، كانت تتم تسوية التباينات، ويصار إلى استمرار التنسيق
والتواصل.
منذ فترة، يجري البحث في إعادة الثقة بين السعودية وحلفائها اللبنانيين، وتأمين عوامل تقويتها، خصوصاً أنها وجدت نفسها ذات يوم وقد خسرت كل ما قدّمته لهم، ورأت أنهم لم يحافظوا على مكتسباتهم السياسية، وتراجعوا أمام الخصوم. وعلى هذا التقييم، اندفعت السعودية حينها إلى وقف دعمها لهم. في المقابل، كان حلفاؤها اللبنانيون يعتبرون أن إيقاف الدعم السعودي، وغياب مظلة الحماية، هو الذي أدى إلى التراجع والترهل.
اليوم، وصلت الأمور إلى حال حرجة. لم يعد بالإمكان التهاون أو
التراجع في وجه ما يحدث. صحيح أن السعودية لديها اهتمامات أكثر إلحاحاً،
ولها أولوية عندها أكثر من لبنان أو سوريا. لكن أيضاً، ثمة قناعة يجب أن
تكون راسخة، أن لبنان وسوريا في المفهوم السياسي والاستراتيجي، يشكلان خطّ
دفاع أول عن السعودية تحديداً والخليج برمّته عموماً. ولو أن “التوازن”
العربي قائم فيهما، لما انتقلت المعارك إلى اليمن أو إلى حدود المملكة،
ولما وصلت النيران لتطال مطار أبها. المعادلة واضحة، أي خسارة في لبنان أو
سوريا، ستؤدي إلى المزيد من الخسارات في الخليج. وداخل معادلة الصراع مع
إيران لا يمكن للسعودية الاكتفاء بتحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة
لحماية عمقها وحدودها ومجالها الخليجي الحيوي ومداها العربي في بلاد
الشام. فمصالح الدول قابلة لأن تتغير في أي لحظة، كما حصل في العام 2015،
إبان توقيع الاتفاق النووي بين إيران والغرب، من دون اعتبار لمصالح العرب.
خطوط الدفاع
هذا
الواقع، يفرض على المملكة انتهاج سلوك سياسي مغاير تماماً، ينطلق من مبدأ
تعزيز الحلفاء، وتحصين أدوارهم حيث هم، والاستناد إليهم فقط، كفيل بتأسيس
خطوط الدفاع في مواجهة أي مخاطر مستقبلية. وتتيح مراكمة أوراق القوة،
القدرة على المناورة والمواجهة وتحقيق الأهداف الاستراتيجية والسياسية.
وهنا ثمّة مثال بارز وواضح وجلّي أمام المملكة، ألا وهو النموذج الإيراني،
الذي حسب ما هو مشهود، كان طوال السنوات الفائتة على خصومة مع الأميركيين،
لكنه استطاع بناء قوته الذاتية والرهان على تقاطعات مصلحية إقليمية ودولية،
ومن ثم وصل إلى موقع متقدّم في المنطقة، بالاستناد إلى حلفاء عمل على
تقديم كل سبل الدعم لهم. وهم الذين مثّلوا عناصر قوة طهران، التي فرضت
نفسها في المنطقة وفي المعادلة الإقليمية والدولية، وستصل في النهاية إلى
تفاهم مع الأميركيين بعد كل التصعيد المشهود.
يعني هذا الكلام، أن التحالف مع الأميركيين لا يكفي وحده
لتوفير الحماية وتأمين الاستقرار والازدهار والاحتفاظ بهما. فالقوة لا تبنى
بدون مقومات ذاتية، وهذه المقومات يجب أن تتعزز بدعم الحلفاء المستمر،
وتصويب المسار. ولو توفر ذلك في لبنان، لما حصل هذا التراجع الكبير، واختل
ميزان القوى كلياً لصالح حزب الله وحلفائه، على حساب تشتت حلفاء السعودية.
تقارب الحلفاء
من
الواضح أن الملاحظات السعودية كثيرة على التسوية اللبنانية ومسارها. وبما
أن لا شيء نهائياً في السياسة، فإن الظروف تتغير تبعاً للأحداث والتطورات.
وهناك في لبنان فرصة اليوم لاستعادة إحياء منطق التوازن، ليس بضرب التسوية
أو بـ”كسر الجرّة” بين الأفرقاء، إنما من خلال توفير الدعم للحلفاء
لاستعادة أنفاسهم. ومنذ الإشكال السياسي الذي ظهر بين الرئيس سعد الحريري
والوزير جبران باسيل، والخلاف المستمر على الصلاحيات، كان لا بد من بلورة
تصور سياسي يحمي “الطائف”، ويوقف أي مسار للتنازلات. وهذا المسار لا يمكن
إيقافه من دون توفير الدعم للحريري، الذي يعتبر أن ميزان القوى هو الذي
يفرض عليه التنازل والتساهل، فأي أي تغيير بقواعد اللعبة قد يدفع هو ثمنه.
تفيد بعض المؤشرات باستعادة السعودية لحراكها على الساحة اللبنانية. ومنذ المواجهة التي فرضت على وليد جنبلاط، كان لافتاً – حسب المؤشرات – اهتمام سعودي بعدم ترك رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وحيداً، وبالإصرار على احتضانه وتوفير أسباب الدعم السياسية والمعنوية له، لمنع أي محاولة للاستفراد به. فتلاقى هذا الموقف مع موقف الرئيس سعد الحريري، ورؤساء الحكومات السابقين والقوات اللبنانية، كما كانت المصالحة بين الحريري وجنبلاط وتفاهمهما.
قد تكون الفرصة سانحة اليوم لإعادة إحياء التوازن في لبنان، على قاعدة حماية اتفاق الطائف وصلاحيات رئاسة الحكومة، على ما قال الرئيس فؤاد السنيورة من جدّة. وزيارة الرؤساء الثلاثة إلى السعودية، ولقاؤهم الملك سلمان والمسؤولين عن الملف اللبناني، إشارة كبيرة إلى استعادة زخم السياسة السعودية تجاه لبنان. وهذا أيضاً ما أكده الرؤساء الثلاثة، الذين أعلنوا عن عودة سعودية لدعم لبنان، ونقلوا عن الملك حرصه واهتمامه بالملف اللبناني ودعم الحكومة ورئاستها.
أصوات اعتراضية
توجَّه الرؤساء الثلاثة بتنسيق مسبق مع الرئيس سعد الحريري. وكأن الزيارة لها هدف واضح، وهو السؤال عن مدى استعداد المملكة للعودة إلى لبنان، والتأثير في مجرياته عبر تقديم الدعم اللازم، لأن استمرار الوضع على حاله لم يعد ممكناً، خصوصاً وأن الحريري منزعج إلى حدّ بعيد مما يحصل ومن بعض الممارسات السياسية من بعض أطراف التسوية. لكنه أيضاً بحاجة إلى دعم ليتخذ موقفاً، وكي لا يجد نفسه وحيداً أو محرجاً. وفيما تزامنت الزيارة مع تطورات سياسية على الساحة الداخلية، كانت هناك أصوات اعتراضية أيضاً على آلية التعامل السعودية مع حلفائها في لبنان، وكأن المراد إيصاله، أن استمرار تهميش الملف اللبناني عن الاهتمامات والأولويات السعودية، لن يؤدي فقط إلى الخسارة السياسية والاستراتيجية، إنما سيدفع بالكثيرين إلى الذهاب بعيداً في مواقفهم وربما في خياراتهم. كلام كثير قيل وسيقال عن الزيارة ونتائجها. لكن خلاصتها في جملة واحدة، إما عودة قوية، أو خسارة كبيرة. وهذه الرسالة التي نُقلت، مبنية على قناعة لدى ناقليها، بأن الأوان لم يفت بعد، وهناك إمكانية لاستعادة زمام المبادرة.
المدن