“أنبياء” لبنان الثلاثة… للحرب والتشريع والرئاسة
لدينا في لبنان اليوم ثلاثة “أنبياء” على الأقل، عدا أنصاف الأنبياء وأرباعهم، وعدا المرشدين والمساعدين في النبوة.
الثلاثة المكتملو النبوة لدى مريديهم ومقلديهم وأتباعهم،
لكلِّ واحد منهم طريقته في الدعوة والتبليغ والحضرة، وحشد المؤمنين
والأنصار.
نبيّ الحرب
أعلاهم كعباً في نبوته بلغ سلطانه
واسمه وحضرته قمة القداسة. ولديه جيش مهدوي سري ينقِّله في الأمصار
والبلدان، لخوض حروب أهلية إمبراطورية مقدسة. في كل أسبوع تقريباً يطل من
ملكوته الخفي الأعلى، فيبلّغُ، إذا دعته الملمّات، العالمَ ومريديه أمر
اليوم وحكمة اليوم، من علياء شاشةٍ تلفزيونية عملاقة تتصدر مجلس مقدميه
الجالسين مشرئبي الأعناق والأبصار إلى حضرته الصورية .
في إطلالته الأخيرة قال لجيشه وأنصاره متباهياً بأن بيت ماله الذي يأتيه بالحقائب من طهران لن ينضب، على خلاف بيت مال الدولة اللبنانية الناضب.
العالم والدول والبلاد والبشر في دعوته عصبيات وأهل وأتباع وموالي، أخيار أو أشرار، شرفاء كرماء أو بلا شرف ولا كرامة، أصفياء أنقياء أتقياء أو كفرة وجواسيس وأبالسة. أما هاجسه الدائم في حوادث الدنيا، فهم المتآمرون والجواسيس على سلطانه ودعوته الشريفة، وعملاء السفارات والسفراء الشياطين والصهاينة. أولئك الذين يصوّرهم في مطولاته الخطابية المتلفزة على نحو صورته العظامية عن ذاته، وتصوره السردابيّ والهوامي للعالم والعيش: لا عمل لهم ولا يشغلهم على هذه الأرض سوى التآمر عليه. وفي إطلالاته المتلفزة غالباً ما يتحدث عن خوفهم ورعبهم الدائم من جيشه.
نبوّته حربية كلها. والحرب في فقهه أشرفَ مهنة على الأرض. والشهداء سادة قافلة الوجود، ويعبّدون طريق أمّته إلى الجنة. ومن لم تضمه الشهادة إلى القافلة، ينتظر معراجها بفارغ الصبر.
للشهداء مؤسستهم الدنيوية التي ترعى أهلهم وتتكفّلهم لإنتاج الشهداء وتكثيرهم. وأمهات الشهداء، أخوتهم وأخواتهم وزوجاتهم وآباؤهم، منَّ الله عليهم بشهيد منهم، تهبّ عليهم من طيف غيابه نسائم الجنّة، ويبصرونه في مناماتهم، يكلّمهم ويكلمونه، بعدما صار ملاكاً طهوراً.
في مملكة نبي الحرب وأميرها على الأرض، ووسيط المعراج إلى ملكوت الشهادة والاستشهاد، يعيش البشر – بشر الدنيا العاديون السادرون – حياتهم نكراتٍ تسعى بلا هدف ولا معنى، ومنشغلين بأمور دنياهم الوضيعة.
أما إذا حملتهم حاجاتهم الدنيوية على المطالبة بتحسين شروط
تحصيلها – مثلما يحصل في لبنان والعراق في هذه الأيام مثلاً – فيطلُّ عليهم
نبي مملكة مهنة الحرب الشريفة، قائلاً لهم إنه يتفهّم مطاليبهم المعيشيّة
الصغيرة الشأن في ناموس المملكة وملكوتها. وهو في تفهّمه هذا يقول: طالبوا
ما شئتم وبما شئتم من أمور معاشكم في دنياكم، لكن إياكم ثم إياكم أن
تتعرضوا بكلمة واحدة تطال مهنتي الشريفة المقدسة، مثل اسمي وشخصي في هذه
المملكة التي أَوكلتُ شؤون معاشها الدنيوية إلى سواي الذين ولّيتهم عليكم
ليتدبروا هذه الشؤون الصغيرة.
نبيّ التشريع
النبي الثاني
في دنيانا اللبنانية، نبّي هجين، دنيوي – إمامي، وتسلق المراتب إلى التصدر
في حركة يختلط في دعوتها إرثٌ ديني نسبي أو سلالي شريف، وحرمان دنيوي. ولما
غُيّب إمام هذه الحركة، الذي قال في غمرة حروب أهلية طاحنة إن “السلاح
زينة الرجال”، ورث الأستاذُ الحركة وإمرتها، وتابع بها خوض الحرب مأموراً
من الولي الإقليمي في حروب لبنان الأهلية. وبعدما شارك أمثاله في “انتفاضة”
مجيدة لبعث الحروب وتجديدها، عُيّن وزيراً، فألهب أنصاره وأتباعه سماء
بيروت بالرصاص الطائش في أمسية كئيبة، لم يعد أحد يتذكر كم شخصاً قُتل
فيها برصاصات الابتهاج الطائشة.
ما إن قامت الثورة المهدوية الخمينية لخلاص المستضعفين في الأرض، حتى انشقت حركة الأستاذ الوزير حركتين: حركة ثورية مهدوية انضوت تحت عباءة مرشد وخطيب مسجد، فتولى الجهاز الخميني الإيراني إدارتها وتأطيرها وتسليكها حلقات عسكرية -أمنية سرية تابعة له في لبنان، حتى اكتمل بنيانها أخيراً واكتملت نبوّة أمير حربها اللبناني، والأصح المُلبنن، واكتمل جيشها السري المهدوي المتنقل لخوض حروب أهلية مقدسة في أمصار الأمبراطورية.
الشّطر الثاني من تلك الحركة ظل في عهدة الأستاذ الوزير، لكن انشطار الحركة لم يكتمل إلا بعدما حصد بضعة آلاف من القتلى في حرب أهلية حميمة بين شطريها وفي ديارها: الشطر المهدوي الخلاصي، والشطر الدنيوي الذي أقام على ولائه المستميت للسيد الإقليمي في حروب لبنان الأهلية.
وقبل أن تختتم الحروب في لبنان فصولها، خاض الشطر الدنيوي من الحركة حرباً مروّعة على بقايا المسلحين البائسين الفلسطينيين، أيتام ثورتهم التي رحل مقدموها وتركوهم في بؤس المخيمات. قُتِل ألوف في تلك الحروب، كي تكتمل سيطرة السيد الإقليمي على قضية فلسطين مجرّدة من الفلسطينيين، وعلى خرائب لبنان. ولقاء ذلك نال أستاذ الحركة الدنيوية ووزيرها جائزة جديدة: وُلِّي أمرَ التشريع في البرلمان اللبناني شبه المعين على مثال “مجلس الشعب” في جمهورية الديكتاتور الشقيقة.
ومنذ ذلك الحين تتفجر عبقرية أمير التشريع اللبناني أو نبيّه، من دون أن ينازعه أحد في عبقريته هذه. أما حركته فتحولت جهازاً شبه مافيويّ من المنتفعين المتسلقين ورعاع الأحياء الفقيرة في المدن. وجميع هؤلاء يُفرض عليهم فرض عين عبادة صور سيّدهم العملاقة. وتبرّع كبار منتفعي الجهاز ببناء قصر خاص لأمير التشريع. أما قصره الرسمي العام فبُني على حساب مالية الدولة. ذلك لأن ليس من العدل أن يكون في لبنان قصر لرئاسة الحكومة وآخر لرئاسة الجمهورية، من دون أن يكون لرئيس التشريع قصرَه العمومي الذي تحرسه عصبة يقودها من اتخذ من الحطب اليابس اسما أو لقباً لقيادته العسكرية الجهازية.
أنصار رئيس الحركة لم يرتضوا بقاءه بلا نبوّة، فنسجوا على منوال أنصار نبي الحرب المهدوي، وكتبوا بشبه أميّتهم على صوره العملاقة في دياره: لولا حرف الهاء في آخر اسمه لصار نبيّاً. وكتبوا أيضا متهددين ومتوعدين: ويلكم اذا نفد صبره.
وفي أثناء انتفاضة اللبنانيين الدنيوية المستمرة منذ 17 تشرين
الأول المنصرم، دبّ ذعرٌ في جهاز الحركة، فأسقطوا حرف الهاء من اسم
رئيسها، وأعلنوه نبيّاً مقدساً في “الثورة المضادة” للانتفاضة الدنيوية
التي تريد إخراج اللبنانيين من شرانق الولاءات والإمارات والأنبياء.
نبيّ الرئاسة والخلاص
النبيّ
الثالث في لبنان، تجمع رهطه الجماهيري “الحضاري” – وهو يعبد هذه الكلمة
عبادة لاهوتية لفظية خاوية، لتصير محرابه القدسي لعبادة لبنان العظيم في
خوائه – تجمع رهطه اليوم الأحد 3 تشرين الثاني حول قصر “بيّ الكل”، “قصر
الشعب”، لتنزيه صهره من الشتيمة اللاذعة التي أطلقها شبان لبنان الساخرين
في انتفاضتهم ضد الآباء العرابين والزعماء والأنبياء.
والنبي الثالث هذا تأخر ظهوره ليمتزج في نبوّته ادعاء الرسولية والخلاصية الوطنية في لحظة مأزومة عاصفة من تاريخ جماعته وحروبها وتاريخ لبنان الحربي. وهو وعد جماعته ووعد لبنان كله بالخلاص، فخاض حربين مدمرتين ختم بهما الحروب الأهلية، للبقاء في القصر الرئاسي الذي سمّاه “قصر الشعب”، وجمع حوله أنصاره ومريديه لحمايته. لكن وليّ حروب لبنان الإقليمي قصف القصر ودمّره في لحظة إقليمية ودولية مؤاتية، فهجره المخلص وطار إلى فرنسا.
أنصاره الشبان والشابات في لبنان أنشأوا حركة نضالية ونصّبوه إمامها أو رسولها الغائب، فأدارها هو من باريس باتصالاته الهاتفية اليومية بمناضليها المؤسسين. واستمر طوال 15 سنة على هذا المنوال من الاتصالات العنقودية الرسولية أو الرسالية، ليظلَّ المناضلون المؤسسون طوع كلماته المهدوية في التفريق بينهم، لئلا يستقلوا وينصرفوا عنه في حركتهم النضالية. لذا راح يقرّب هذا ويُبعِّد ذاك، مؤلباً بينهم حتى عودته إلى لبنان في لحظة خلاص اللبنانيين الأحرار من ولي الحرب والاحتلال الإقليميين في بلدهم.
وما أن عاد المخلص المنتظر، حتى شارك نبيّ الحرب في ثورته المضادة على انتفاضة اللبنانيين الراغبين في الحرية والاستقلال. ولما أُسقط في يد قدامى مناضلي حركته، وسألوه عن رسالته الموعودة، طردهم من الهيكل، واستبدلهم بمتسلقين جوعى إلى التصدّر والنفوذ، وأضاف إليهم بقايا أيتام الاحتلال الإقليمي الراحل، ثم صار إمامهم المتقنّع ببراقع دعوته الخلاصية التي تمكنَّ بواسطتها من العودة إلى القصر الجمهوري الرئاسي، حلمه الأول والأخير.
وفي الأثناء أسّس سلالة سياسية عائلية تصدّرها صهره الذي ورث الإمام المخلص في حياته، فدبَّ الشقاق بين مقدمي السلالة، فيما يسرعُ الصهر ويحرق المراحل والوقت والكلمات الجوفاء لوراثة القصر الرئاسي.
وفي غمرة انتفاضة اللبنانيين الدنيوية الراهنة على شرانق
الولاءات وورثة الإمارات والأنبياء، كان الصهر الوريث يهندس في القصر
انتفاضته الأحدية المضادة، فحشد لها على الطريق إلى القصر جمهوره الطائفي
الصافي والعريض، على مثال حشد المخلص الأول مصدّقي دعوته الخلاصية الذين
هبوا لنجدته بعد حروبه المدمرة الخاسرة.
البلوى اللبنانية
لم
يبتلِ اللبنانيون بهؤلاء الأنبياء الثلاثة الأساسيين وحدهم، وعلى اختلاف
طرقهم في النبوة. فهناك سواهم أقل نبوة. منهم أمراء إقطاعيات عشائرية قديمة
ومتأرّثة، في الشمال والشوف. وبينهم أتباع ومتنفذي أمراء. وهناك وريث
زعامة محدثة مهيض الجناح، صمتَ أنصاره وأتباعه المحبطين منه ومن سائر
الأمراء والأنبياء المتطاولين على زعامته، صمتاً كئيباً مضنيا في أيام
انتفاضة اللبنانيين على الزعماء، ثم هبوا مستلحقين أنفسهم بانتفاضة تجدِّد
له الولاء والطاعة بعد استقالته من منصبه.
هذا المخاض اللبناني الصعب، هل هو واحد من المخاضات الدائرية المتكررة؟
محمد أبي سمرا – المدن