اجتماع باريس الفرنسي البريطاني الأميركي: نظام الطائف انتهى
لاجتماع باريس الثلاثي، يوم الثلاثاء 19 تشرين الثاني 2019،
أهمية مضاعفة. أولاً لأن الدول الغربية الحليفة، فرنسا وبريطانيا والولايات
المتحدة الأميركية، قررت التشاور في شأن الأزمة اللبنانية الراهنة. وهذا
يعني أن استثنائية الحدث فرضت نفسها على الأجندة الدبلوماسية الغربية، بعد
شهر على بدء انتفاضة اللبنانيين ضد كل قوى السلطة. ثانياً، لأن إدارة هذه
الأزمة مرهونة إلى حد كبير بنتائج هذا الاجتماع، وبمدى تقاطع أو تباين
مواقف الحكومات الغربية الثلاث تجاه الوضع اللبناني.
تجربة 1958
طبعاً،
سيحاول مدير الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في وزارة الخارجية الفرنسية،
كريستوف فارنو، الذي قام بزيارة استطلاعية الأسبوع الماضي إلى بيروت، وممثل
عن وزارة شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في وزارة الخارجية البريطانية،
ومساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، ديفيد شينكر، التركيز
على القواسم المشتركة في اجتماعهم في باريس. لكن تبايناتهم قد تساهم في نسف
أي عمل مشترك فرنسي ــ بريطاني ــ أميركي بنّاء في لبنان. وتاريخ أزمات
هذا البلد منذ عام 1958 حافل بتجارب عن التعاون والتباعد بين هؤلاء الحلفاء
الغربيين الثلاث.
خلال الحرب الأهلية المصغرة عام 1958، تعاونت واشنطن مع لندن،
بينما قامت بإقصاء باريس عن إدارة الأزمة. حينها، تدخلت القوات الأميركية
في لبنان (والبريطانية في الأردن). هدف هذا التدخل كان يتمثل في تقديم
الدعم والحماية لرئيس الجمهورية آنذاك، كميل شمعون، بوجه معارضيه المدعومين
من مصر بقيادة جمال عبدالناصر، والذين كانوا يرفضون محاولة تجديد ولاية
شمعون. لكن واشنطن ارتكزت على استعراض القوة هذا من أجل رعاية تسوية أوصلت
إلى رئاسة الجمهورية قائد الجيش فؤاد شهاب، على قاعدة “لا غالب ولا مغلوب”.
صحيح أن فرنسا كانت ممتعضة وغاضبة من إقصاء الحلفاء الأميركيين لها، لكنها
كانت تنظر إلى خيار فؤاد شهاب بوصفه خياراً مناسباً ومتوازناً.
مفاوضات 1976
بعد
اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، اختلف التعامل الغربي معها، وفقاً لاختلاف
مساراتها. في شهر آذار 1976، وبينما كان تحالف المليشيات الفلسطينية
ومليشيات القوى اليسارية والإسلامية ينوي حسم المعركة عسكرياً ضد مليشيات
الأحزاب اليمينية المارونية، وفي حين كانت سوريا تلوّح بالتدخل العسكري
المباشر، اقترحت واشنطن على كل من باريس ولندن أن تقومان باللجوء إلى مجلس
الأمن الدولي للنظر بالوضع اللبناني. أي لوّحت الإدارة الأميركية آنذاك
بخيار التدويل، وما كان يعنيه ذلك من احتمال صدور قرار أممي ينص على إرسال
قوات حفظ سلام للفصل بين المتحاربين. الغريب أن توقيت هذا الاقتراح في
الأسبوع الأخير من شهر آذار، تزامن مع المفاوضات السرية الأميركية ــ
السورية ــ الإسرائيلية التي نتج عنها ما يعرف بـ”اتفاق الخطوط الحمر” بين
تل أبيب ودمشق برعاية واشنطن. أي الاتفاق الذي كرّس ضمنياً موافقة كل من
أميركا وإسرائيل على التدخل العسكري السوري في لبنان عام 1976. لم يُكتب
النجاح إذاً للتعاون الأميركي ــ الفرنسي ــ البريطاني في إدارة تلك الأزمة
آنذاك.
القوات المتعددة الجنسيات
بعد الاجتياح
الإسرائيلي للبنان عام 1982، والذي أدى إلى خروج “منظمة التحرير
الفلسطينية” من بيروت، اتسمت إدارة الوضع بتعاون وثيق بين كل من واشنطن
وباريس ولندن، إضافةً إلى روما. تم إرسال ما يعرف بـ”قوات المتعددة
الجنسيات” إلى العاصمة، والتي اضطلعت بمهمة حفظ الأمن. لعب الأميركيون
والفرنسيون دوراً أساسياً على الأرض، فيما كانت المشاركة العسكرية
البريطانية هامشية. أما القوات الإيطالية فكان تركيزها الأساسي على توفير
حماية للمخيمات الفلسطينية بعد مجزرة صبرا وشاتيلا. تكاد تكون تجربة
“القوات المتعددة الجنسيات” نموذجية في تاريخ التعاون الغربي في لبنان. فقد
أتت هذه القوات تحت ذريعة مساعدة الجيش اللبناني وعهد الرئيس أمين الجميل،
على إعادة بسط سلطة الدولة على كامل الأرض اللبنانية. لكنها سرعان ما
تورطت في مستنقع الانقسامات اللبنانية ــ اللبنانية. وفشلت في تحقيق مهمتها
المعلنة، المتمثلة في إعادة بناء الدولة ومؤسساتها في لبنان.
مخاطر أمنية واقتصادية
تختلف
الظروف اليوم عن كل تلك التجارب السابقة. لكن مجرد إقدام الحكومات الغربية
الثلاث على عقد اجتماع مخصص لبحث الأزمة اللبنانية وأحداث انتفاضة “تشرين
2019″، فهذا يعني أنه ثمة حالة طارئة تستدعي استباق تطورات معينة،
والاستعداد لكل السيناريوهات المحتملة على الساحة اللبنانية.
ومن المعروف أن الجميع يولي أهمية الآن، على المدى القصير،
لاحتمال الانهيار المالي. وتحتل هذه المسألة بنداً رئيساً على جدول أعمال
الاجتماع الثلاثي في باريس. من المفترض أن يبحث الحلفاء الغربيون في سبل
تعاونهم لاستباق هذا الانهيار، وفي كيفية إدارتهم لأزمة الانهيار إنْ حصل،
والمساهمة لاحقاً في حلّها. وفي حال اتفقوا على خطة مشتركة في هذا الصدد،
سيترتب عليهم الإعلان عنها في أسرع وقت، وذلك من أجل إحداث صدمة إيجابية
للاقتصاد اللبناني. طبعاً، سيناريو كهذا يتطلب حلاً سريعاً لأزمة تشكيل
الحكومة اللبنانية الجديدة. ومن شأن استمرار التقاعس في هذا الصدد أن يفتح
الباب أمام مخاطر تهديد الاستقرار الداخلي.
حلبة مصارعة
لذلك،
من المفترض أن يتطرق الاجتماع الثلاثي إلى احتمالات التدهور الأمني في هذا
البلد، على المدى القريب أو المتوسط. وهنا، تتراوح الخيارات بين التدويل
عبر مجلس الأمن، أو ربما التدخل مباشرةً، في تكرارٍ لتجربة “قوات المتعددة
الجنسيات” عام 1982. حسابات كهذه ترتبط أولاً بنوايا الولايات المتحدة
الأميركية. فهل تتطلع واشنطن إلى ما هو أبعد من العقوبات التي تستهدف حزب
الله وشبكات تمويله؟ وترتبط ثانياً بتطورات الوضع في الميدان، وتحديداً برد
فعل حزب الله على الانتفاضة، وحيال أداء خصومه السياسيين، بدءاً من رئيس
الحكومة المستقيل، سعد الحريري، مروراً بوليد جنبلاط وصولاً إلى سمير جعجع،
أو تجاه ما يعتبره هو “مخططاً أميركياً” لإضعافه في لبنان. فهل سيبقى
الحزب في حالة تريث أم سيباشر في تحرك سياسي وربما ميداني لمحاولة تكريس
رؤيته لحل الأزمة الحكومية ووضع حد للانتفاضة؟ بكلام آخر، هل ستتحول الساحة
اللبنانية إلى “حلبة مصارعة” جديدة بين محور روسي ــ إيراني ومحور غربي؟
وفي هذه الحالة، هل ستكون فرنسا جزءاً من المحور الغربي أم ستتمايز عنه
لمصلحة دور وسطي متوازن من شأنه تعزيز وضعيتها كوسيط لاحقاً؟
حتى لو تمكنت الأطراف المعنية من تجنّب زعزعة الاستقرار اللبناني، أم لا، يدرك المجتمعون في باريس أن الانتفاضة اللبنانية كشفت عن عمق أزمة النظام اللبناني، أي نظام “اتفاق الطائف”. وهذا يعني أن الاجتماع الثلاثي لا بد من أن يبحث في كيفية مواكبة الدول الغربية والمجتمع الدولي للمسار السياسي اللبناني على المدى البعيد. أي في التفكير بمرحلة ما بعد “الطائف”. يتعلق الأمر بفكرةٍ قيد التداول في الكواليس الدبلوماسية الغربية. وبعض التسريبات الصحافية الأسبوع الماضي تؤكد جديّتها. بمعنى آخر، ثمة إجماع على أن نظام “الطائف”، بعد هذه الانتفاضة، لم يعد قابلاً للحياة إلا بواسطة التنفس الاصطناعي، أي بواسطة علاج بات منهِكاً ومستنزِفاً للجميع.
نبيل الخوري – المدن