الأسد مُحبط وغاضب: لماذا لا يُحاورني أحد؟
في الجزء الأول من مسلسل “دنيا” الكوميدي الشهير، قدمت الممثلة هدى
شعراوي باقتدار، شخصية “الست كوكب صادق”، وهي مغنية عظيمة انحسرت عنها
الأضواء وباتت تلاحق الشهرة وتطارد اللقاءات الإذاعية والتلفزيونية، أملاً
في قليل من المجد الغابر. ورغم أن الشخصية وهمية وهزلية، إلا أن بناءها
الدرامي يذكّر إلى حد كبير، برئيس النظام السوري بشار الأسد، اللاهث هذه
الأيام خلف مقابلات مع وسائل الإعلام المختلفة.
ويمكن ملاحظة الغضب الذي يعتري الأسد شخصياً، على الأغلب، من خلال
متابعة البيانات الانفعالية التي تصدر عن رئاسة الجمهورية العربية السورية
عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إثر رفض قناة “راي نيوز 24” الإيطالية بث
مقابلة أجرتها مع الأسد قبل نحو أسبوعين، بالإضافة إلى التهويل الموازي في المنافذ الإعلامية الرسمية وشبه الرسمية، التي تكيل المديح للأسد بوصفه “تسونامي يفضح الغرب السفيه الفاجر”.
مع التركيز هنا على شخص الأسد، في مقابل منظومة الإعلام المستقل حول
العالم، بعكس الخطاب المعتاد الذي يتمحور حول “الدولة السورية” ككيان، في
وجه الدول الغربية “الشريكة في المؤامرة”.
ويمكن بسهولة تخيل الأسد وهو يغلي ويثور في قصره بدمشق، فيما ينتظر بث المقابلة التي يكرر فيها أكاذيبه، بينما تتكفل الماكينة الدعائية الموالية له بالترويج إلى “تهافت” الإعلام الغربي على إجراء مقابلات معه بوصفه شخصية مهمة. وبسهولة أيضاً يمكن تفهم خيبة الأمل والإحباط بعد تأخر المقابلة، نظراً لندرة المقابلات التي يجريها الأسد مع وسائل الإعلام الغربية تحديداً، مؤخراً، رغم “انتصار” النظام و”بقاء” الأسد في السلطة.
ولا تعتبر تلك النتيجة مفاجئة، نظراً لانعدام وزن الأسد السياسي وفقدانه الشرعية بعد الثورة الشعبية ضده العام 2011. وإن كان بقاؤه على رأس السلطة في البلاد قد تحقق، إلا أن الثمن كان مكلفاً، حيث اعتمد النظام وحلفاؤه سياسة الأرض المحروقة للسيطرة على البلاد، وقتل نحو نصف مليون سوري منذ انطلاقة الثورة السورية وتشرد نصف سكان البلاد بين لجوء خارجي ونزوح داخلي، فيما انهار اقتصاد البلاد. وفوق كومة الخراب المسماة سوريا، بقي الأسد مُكرساً صورته كديكتاتور دموي، لا أكثر. وإن كانت وسائل الإعلام الغربية تهتم به عبر المقابلات من حين إلى آخر، إلا أن ذلك لا يعني التطبيع معه والاعتراف بشرعيته، بل هو جزء من الاعتراف بالواقع الذي يصر نظام الأسد على تحريفه وتشويهه مرة بعد مرة.
وذلك كله تكرسه الأرقام. ففي العام 2016 بعد معركة حلب تحديداً، أجرى الأسد 21 لقاء مع الصحافة الغربية، نالت كلها مشاهدات عالية، ليس لأن الأسد شخصية تحظى بحب عالمي جارف مثلما يكرر إعلاميون تابعون للنظام ينشرون بانتظام أرقام المشاهدات واللايكات الخاصة بأخبار الأسد في الصحف العالمية، وأبرزهم مدير الإعلام الإلكتروني في قناة “الإخبارية السورية” الرسمية، مضر إبراهيم. بل لأن هنالك جاذبية في الاستماع لهذا النوع من الشخصيات الشمولية، تشبه جاذبية الشخصيات الغريبة “Freaks” في السيرك، فيما تدرك وسائل الإعلام الكبرى أن أي تصريح من الأسد بشكل حصري سيكون كفيلاً بحصد قراءات كثيرة من دون شك، سواء كانت تصريحاته مجرد بروباغندا مكشوفة ومكررة، أو آراء شخصية متطرفة، كعدم ندمه على كل ما فعله بالبلاد طوال سنوات الحرب.
هذه الأرقام انخفضت بشكل لافت لاحقاً، حسبما تظهر بيانات وكالة الأنباء الرسمية “سانا” مع تركيز الأسد على الظهور في وسائل الإعلام المحلية والحليفة، بما في ذلك مقابلات عديدة مع وسائل إعلام روسية هذا العام، نال خلالها قسطاً وافياً من التوبيخ، بسبب تصريحاته المنفلتة التي عاكست التوجيهات الروسية بشأن مستقبل سوريا في عدد من القضايا، أبرزها الاتفاق مع تركيا حول المنطقة الآمنة شمالي البلاد، واللجنة الدستورية التي عمل النظام على تعطيلها.
ففي العام 2017 أجرى الأسد 9 لقاءات مع وسائل إعلام غربية من أصل 15 مقابلة إعلامية، وفي العام 2018 أجرى الأسد لقاءين فقط مع وسائل إعلام غربية من أصل خمسة حوارات أجراها، وفي العام الجاري لم يجر الأسد سوى مقابلة واحدة مع صحيفة تركية، وغاب عن اللقاءات الإعلامية حتى شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي عندما كثف ظهوره على الشاشات المحلية والروسية.
وربما يفكر الأسد هنا، بأنه يستحق الظهور أكثر والاعتراف به من قبل العالم كـ”رئيس صمد” طوال سنوات، تماماً مثلما تكرر دعايته، وكأنه يصدق الكذبة التي أطلقها بنفسه بعد الاعتياد عليها طوال سنوات. وبالتالي فإن انحسار الأضواء عنه بهذه الصورة، يسبب الإحباط على المستوى الشخصي، مع الأخذ بعين الاعتبار مسألة حب الأسد لانتزاع الإعجاب وإثبات جدارته بتولي منصب الرئاسة أمام عائلته وأمام العالم أيضاً، وهو ما يشير له تحليل نفسي بارع عرضته هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” في فيلمها الوثائقي “سلالة خطرة”، وقدمه خبراء لهم وزنهم، مثل جيرالد بوسس الذي تستعين به وكالة الاستخبارات المركزية “سي آي إيه” في تحليل الشخصيات الدكتاتورية.
والحال أن الأسد، مع زوجته أسماء، يتصرف منذ سنوات كأحد المشاهير. فحسابات الرئاسة الرسمية، تنشر الصور اليومية له مع عائلته، مثلما ينشر المغنون والممثلون صورهم في الصباح والمساء مع التحيات اللازمة: “صباح الخير، عيد سعيد، نتمنى لكم ليلة طيبة،…” كما أن الأساليب التي يتبعها المشاهير للترويج لأنفسهم تتطابق مع ما يقوم به الأسد أيضاً، حيث تنتشر منذ العام 2017 مقاطع فيديو “التقطت خلسة” بهواتف محمولة للأسد وأفراد من عائلته، وكأن مصوري الباباراتزي يتربصون بهم في الأماكن العامة التي باتت “آمنة” حسب الضخ الدعائي الرسمي. ويبرز هنا مقطعان، الأول للأسد خلال زيارته لمهرجان التسوق المحلي “صنع في سوريا” في حي المزة الدمشقي، والثاني لابنه حافظ العام 2018 في إحدى دوائر النفوس لاستخراج قيد سجل مدني.
وإن كان العالم يعاني ويلات وجود أحد المشاهير في البيت الأبيض، على اعتبار الرئيس الأميركي شخصية بارزة في عالم تلفزيون الواقع وليس فقط قطباً من أقطاب العقارات والتجارة، فإن الأسد يبدو ظلاً لذلك فقط، من ناحية عنصر الترفيه على الأقل، تماماً مثلما يبدو المشاهير المحليون نسخة مشوهة عن النجوم العالميين. فلا هو يحكم سوريا عبر “تويتر”، ولا يقود العالم بطريقة متهورة ومدهشة في آن معاً، ولا يتمتع بأي من المقومات التي تجعله مؤهلاً للعب هذا الدور على النطاق المحلي.
وإن كان ممكناً القول: “شتان ما بين نيكول كيدمان وأمل عرفة” على سبيل المثال، تنعدم أي منطقية في المقارنة بين ترامب والأسد، من هذه الزاوية. وبالتالي، ربما كان من الأجدى تشبيهه فقط بظاهرة المؤثرين والفاشونيستا والصاعدات، عبر السوشيال ميديا، والذين لا يقدمون أي شيء في مقابل شهرتهم التي لا يستحقونها أصلاً. وكم هو مؤسف ومحزن أن يُدمَّر بلد كامل ويعاني الملايين من سكانه، بسبب شخصية كهذه، لا أكثر.
وليد بركسية – المدن