هل يحذو الحريري حذو باسيل؟
من اللذيذ أن تسمع وزير الخارجيّة المستقيل، جبران باسيل، يعترف بفشله في محاربة الفساد. من اللذيذ أن تسمعه يقول إنّه غير مستعدّ لتكرار تجربة السنين الثلاث الأول من «العهد». يحاول أن ينقذ مستقبله السياسيّ؟ ربّما. يقوم بمحاولة «أخيرة» لإقناع الناس المنتفضين بأنّه صادق؟ ربّما. يركب انتفاضة الشهرين التي لا يخفى على الأذكياء أنّ بعض مناصريه الأقربين والأبعدين شيطنوها وحاربوها وشبّحوا على شبابها؟ ربّما. وربّما تكون الربّما أكثر من ربّما. ولكن «يفشّ الخلق» السيّد جبران باسيل، لا لأنّه اعترف بفشله وفشل الآخرين وفشل «العهد» في محاربة الفساد فحسب، بل لأنّه أقرّ أيضاً بأنّ خيارات الناس الذين ينتفضون منذ شهرين صحيحة، صحيحة كلّها، كلّها يعني كلّها.
الغريب في الموضوع أنّ باسيل ذكيّ جدّاً. هذا لا يختلف عليه اثنان. أصدقاؤه وخصومه يتّفقون على ذكائه الاستثنائيّ. وفي السياسة، ليس عيباً أن تكون ذكيّاً. فسياسة الناس لا تحتمل السطلنة ولا تحبّ المساطيل. فلنسلّم جدلاً بأنّ جبران باسيل صادق في كلّ ما قاله. ولكن كيف استطاع أن يقنع نفسه، ويقنع غيره، بأنّ «التفاهم» الذي روّج له بين «مكوّنات» المجتمع، أي التسوية التي نسجها مع أمراء الطوائف وأمراء الحرب، وكلّهم فاسدون، قادرة أن تحارب الفساد وتجتثّه؟ وكيف استطاع أن يزاوج في عقله استثنائيّ الذكاء، بين الدولة المدنيّة و«الميثاقيّة»، وهي كلمة جديدة للتوازن الطائفيّ اخترعها بعض جهابذة التيّار الوطنيّ الحرّ؟ كيف يمكن للذكيّ أن يكون ساذجاً إلى هذه الدرجة؟
الهاتفون ضدّ وزير خارجيّتهم في الساحات، ووصلوا إلى حدّ شتمه، كانوا يأخذون ذكاءه على محمل الجدّ. ولأنّهم يعرفون أنّه ذكيّ وليس ساذجاً، اعتبروا أنّه كان يكذب عليهم عندما صوّر لهم أنّ محاربة الفساد ممكنة عبر التفاهم مع الفاسد والتحالف معه. وهذا بالذات ما دفع الناس إلى أن يروا في الأمر صفقة. من الصعب أن يصل امرؤ فيه ذرّة عقل إلى استنتاج آخر. الناس، إذاً، غير ملومين يا معالي الوزير. يريد السيّد باسيل أن ينسحب من العمل الوزاريّ؟ يا حبّذا!! إنّه يلبّي بذلك مطلباً من مطالب الناس. فالشعب المنتفض يطالب منذ شهرين بحكومة من الاختصاصيّين غير السياسيّين فيما الساسة يغمضون عيونهم ويصمّون آذانهم. يريد أن يحشر سعد الحريريّ؟ ربّما. وربّما تكون الربّما أكثر من ربّما.
لكنّ موقف وزير الخارجيّة المستقيل موقف يحتذى به، لأنّه موقف واضح ويسمّي الأشياء بأسمائها. يعترف بالفشل، ويعترف بالفساد المستشري، ويعترف بخيارات الناس. في الأمس البعيد سمعنا السيّد سعد الحريريّ يواجه مفتي الجمهوريّة في موضوع الزواج المدنيّ. وفي الأمس القريب وجدناه يتلطّى وراء المرجعيّة الطائفيّة كي يشقّ طريقه إلى رئاسة الحكومة من جديد. في الأمس القريب أعلن صراحةً أنّ الحكومة يجب أن يترأسّها آخر. وها هو اليوم يشحذ سيفه في سبيل عودة دونكيشوتيّة إلى تلّة السراي لم يشهد لبنان مثيلاً لها من ذي قبل. ما هذا الالتباس يا شيخ سعد؟ حريّ بك أن تقتدي بوزير خارجيّتك في وضوحه. طبعاً لم يصدّق أحد السيّد سعد الحريريّ حين أعلن أنّ الحكومة يجب أن تكون مع سواه. لا الأصدقاء صدّقوه ولا الأعداء. كما أنّ كثيرين لا يصدّقون اليوم جبران باسيل.
لعله قد آن الأوان أن يحذو الشيخ سعد حذو الباسيل، أي أن يتخلّى بدوره عن العمل الوزاريّ ويرحل. فلا البنوّة للحريري الأب، ولا القوّة في الطائفة السنّيّة، ولا العلاقات الدوليّة تبيّض صفحة الفاشلين. لقد آن لرئيس الحكومة المستقيل أن يقتدي بوزير خارجيّته المستقيل، لأنّ الأخير بزّه في الوضوح والصراحة. والاقتداء بالواضحين والصريحين فضيلة حتّى ولو أتى متأخّراً.
المدن