الاستيلاء العوني على المناصب يدمّر المسيحيين ويمزّق لبنان
يتعارض البيان الذي أصدره رؤساء الحكومة السابقين مع اتفاق الطائف. هم لا يريدون ضرب الطائف طبعاً، لكن ازدواجية المعايير في مواقفهم، تسهم في خيارات وقرارات سياسية متناقضة. وعلى الرغم من أن هذه الخيارات والمواقف تخدم في وقت محدد المصالح التي يمثلها الرؤساء الأربعة (الحريري، السنيورة، سلام، ميقاتي)، فهي تتعارض في محطات كثيرة مع تلك المصالح.
ما وراء الطائف
جاء
رفضهم التعيينات، وخروجهم ببيان قاس، بهدف حماية مواقع أو مناصب إدارية
رفيعة في الدولة، من آخرين يريدون المساس بها. أو منع رئيس حكومة جديد، ومن
خارج نادي الزعماء السياسيين، ولا يمتلك تمثيل شعبوي في طائفته، من التحكم
بتلك المواقع أو المناصب الإدارية.
لكن خشية الرؤساء الأربعة السابقين الأساسية، تتصل بأن يُعيّن في تلك المواقع – المناصب أشخاص من الطائفة السنية، محسوبين على رئيس الجمهورية ووريث تياره، الصهر جبران باسيل.
البيان في شكله ومضمونه يقفز فوق اتفاق الطائف ويتجاهله.
فالاتفاق ذاك أناط قرار التعيينات بالسلطة التنفيذية، التي يدعي الرؤساء
الثلاثة الحرص على حمايتها، ولم ينجحوا في ذلك من قبل، فانكفأوا إلى الدفاع
عن مناصب وتفاصيل صغيرة، يتناقض الدفاع عنها مع حماية الطائف الذي
يعتبرونه حصنهم المنيع في تركيبة الحكم والسلطة في لبنان.
تهافت السياسة
ومن
الإشارات على تناقضهم، أن كلاً منهم يناقض ممارساته السابقة: نجيب ميقاتي
يرفض التعيينات التي يريد رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة حسان دياب فرضها،
بينما كان هو أشد المتباهين سياسياً بأنه عندما ترأس الحكومة لم يتنازل
لعون أو لحزب الله عن أي موقع أو عن أي صلاحية، ويطلب اليوم من الموالاة أن
تعيّن له من يريد، وهو يعارضها وغير مشارك في الحكومة.
ويرفض سعد الحريري منطق المحاصصة في التعيينات وتوزيعاتها السياسية، لكنه هو من أبرم هذا النوع من التعيينات، وتنازل بموجبها عن الكثير من الثوابت والمواقع، عندما كان في السلطة وأبرم التسوية مع عون – باسيل. وها هو يجد نفسه معارضاً لحسان دياب، ومناقضاً نفسه بنفسه، وما كان يفعله.
يشير هذا النوع من الممارسة السياسية إلى تهافت السياسة. وهو
تهافت يتفشى في السنّية السياسية وفي المارونية السياسية، بينما لا تكف
الشيعية السياسية عن مراكمة المكتسبات في ميادين مختلفة، من السياسة إلى
مواجهة وباء كورونا.
الموارنة والسنة
في هذا الملمح
(تهافت السياسة) لا يختلف مصير السنّة عن مصير المسيحيين، الموارنة
تحديداً. فكل منهما قوّض بسياساته وممارساته ما بناه: خسر الموارنة بلداً
ودولة كانا على قياسهم. وخسر السنّة تعديلاً دستورياً أدى إلى تعديل سياسي
في موازين القوى، وسارعوا إلى تبديده بسبب صراعاتهم ونزاعاتهم وضيق أفقهم.
ما أصاب السنّة ولا يزال، أصاب ويصيب المسيحيين أيضاً، حتى في
ظل ما يسمونه عهدهم القوي، الذي يدّعي استعادة أمجاد سابقة، في حروب
الصلاحيات. فرئيس الجمهورية وصهره يدعيان القتال دفاعاً عن المسيحيين
وحقوقهم واستعادة صلاحياتهم وتقوية مواقعهم في الدولة. لكن النتائج الأولى
لممارساتهما لا تؤدي سوى إلى إضعاف المسيحيين وتهشيم مواقعهم. وهذا سيؤدي
بلا شك إلى المزيد من التهافت.
عزلة العهد
فمواقع قرار
المسيحيين في الدولة تقوضت كلها. رئاسة الجمهورية تعيش عزلتين: عزلة محلية
تتجلى بالهوة الشاسعة بينها وبين فئات واسعة من المسيحيين، وشطر كبير من
السياسيين، وعلاقة متوترة مع نصف حلفائها الشيعة (نبيه بري وحركته)، لتنحصر
علاقة الرئاسة الحسنة بحزب الله الشيعي. هذا فيما معركتها مفتوحة مع نبيه
بري وسليمان فرنجية وغيرهما. وعلاقة الرئاسة بالكنيسة المارونية ليست جيدة،
وكذلك مع قيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان. والشارع المسيحي يساوره شعور
عام بعدم الثقة بسياسة الرئاسة. ناهيك عن موقف كل من فرنجية والقوات
اللبنانية وحزب الكتائب.
وحتى الكنيسة التي لا تبدو فاعلة إلى جانب
القصر. يجري في دوائرها الضيقة تحميل عهد عون مسؤولية الفشل والتراجع.
وطوال سنوات ثلاث ونصف السنة، لم يقدم عون أي لمعة، أو إنجاز يمكن تسجيله
والوقوف عنده، لا في السياسة، ولا في الاقتصاد، ولا في القطاع المالي
والإداري.
وتعيش رئاسة الجمهورية عزلة على الصعيد الدولي، بفعل انقطاع لبنان عن كل علاقاته الخارجية العربية والدولية.
الكنيسة المارونية، التي لطالما كانت الراعية للرئاسة الأولى
وللدور التاريخي للموارنة في لبنان وعلاقاته الدولية، مبتلية بمشاكلها. ولم
تقدم مشاريع بارزة ملموسة لنجدة الناس على المستويات المعيشية والتعليمية.
مشاريعها التي يُحكى عنها تبقى حبراً على ورق. مواقفها السياسية لم تعد
ثابتة كما كانت في السابق. وهي تتذبذب وفق اتجاه الرياح، فتفقد جزءاً من
بريقها ومن دورها التاريخي المؤسس.
تمزق المسيحيين
إدعاء
حماية مواقع المسيحيين وتعزيز حضورهم، يندرج في خانة الدعاية السياسية
لتعزيز المكاسب الحزبية. لا يحتاج المرء إلى كثير من التمحيص والعناية
لاكتشاف الصراع المحموم والمفتوح بين الرئاسة وبعض المواقع المسيحية
الأخرى، على رأسها حاكمية مصرف لبنان وقيادة الجيش. وهذان الموقعان يمثلان
أهمية استثنائية في التركيبة اللبنانية. فحاكم المصرف المركزي هو صاحب
الموقع الثاني الأهم في الدولة اللبنانية. لكن حاكمه رياض سلامة يتعرض إلى
أعتى الهجومات من رئيس الجمهورية وفريقه لحسابات سياسية ومصلحية لا تتعلق
بحماية المسيحيين وأدوارهم، ولا بحماية لبنان طبعاً.
والصراع مع قيادة الجيش والسعي إلى تطويق جوزف عون، يصبان أيضاً في الاتجاه نفسه: تطويق المواقع المسيحية والمارونية كلها بالتحديد، لتصير عونية أو طيّعة للصهر باسيل، مع ما يرافق ذلك من ترهل داخل هذه البيئة بسبب الصراع على النفوذ. فتعيين أي شخص في منصب معين من الضروري أن يكون طيّعاً، هيناً وليناً، بين يدي صاحب الحكم، وحريصاً على مصالحه وصفقاته، وإما يكون فاسداً ومن أصحاب التبعية للخارج.
هذا الصراع لا يؤدي إلى حماية مواقع المسيحيين، وفق ما يدعي أصحاب هذه البروباغندا، بل يسهم في إضعافهم وشرذمتهم، خدمة لحسابات ومصالح فئوية. حسابات ومصالح لطالما كانت الطريق إلى التفكك والإنهيار الذي عاشه المسيحيون، وهم أيقنوا أنهم خسروا دولة “أسست لأجلهم”.
والصراعات التي يخوضها العهد العوني لن تسهم في تعزيز مواقع المسيحيين، بل ستؤدي إلى خيار من إثنين: الأول، إعادة صياغة تركيبة النظام السياسي، ليكون المسيحيون والسنّة الخاسرين الأكبرين. والثاني الذهاب إلى خيارات تتخطى اللامركزية الإدارية إلى اللامركزية المالية الموسعة، والتي حتماً ستنهي النموذج اللبناني الذي أرساه المسيحيون وقبِل السنّة في تبنيه
المدن