وليد روبن هود جنبلاط
“كلّن يعني كلّن” اتّهموا بأنّهم سرقوا. يعرف اللبنانيون، بالغريزة السياسية، وبما يتجرّأ إعلاميون متفلّتون من أجهزة الرقابة، على قوله. أجهزة مالية كانت أو سياسية أو سلطوية أو حزبية. يتسرّب إلى اللبنانيين ما يلزم من معلومات، ليعرفوا من سرق وأين وكيف. ليفهموا، فيوافق بعضهم أو يرفض.
“عالسكّين يا بطّيخ”، قال أحد الزعماء، غير آبه، وقال آخر: “أريد حصّتي”. حتى ظنّ مناصرو هذا وذاك أنّه “يسرق ليعطينا”. على طريقة نكتة “سروق وجيب يا أومّي، سروق وجيب”.
لكن يبدو أنّ وليد جنبلاط هو الوحيد الذي يخجل من وجوه الفقراء، ومن
بطون الجائعين، سنّة كانوا أو مسيحيين أو شيعة أو دروزاً. في الأسابيع
الأخيرة، إكتشفنا أنّ الزعماء أنواع، وأنّ المتّهمين أشكالٌ وألوان، وأنّ
من يجب أن نكرههم، يصدف أن نقع في غرامهم أحياناً.
إقرأ أيضاً: جنبلاط: “لن يجوع درزي في لبنان طالما المختارة موجودة”
تماماً
كما أنّ الساعة المعطّلة تعطيك الوقت صحيحاً، مرّتين في اليوم. كذلك فإنّ
بعض الزعماء يحملون في طيناتهم السياسية الكثير من الجينات الصالحة. ووليد
جنبلاط واحدٌ من السياسيين الذين نحتار في كيفية النظر إليهم.
هو تارةً زعيم مذهبي غارق في همّ “حماية الدروز”، وتارةً واحد من الحيتان الكبار، متّهم بتحويل 300 مليون دولار إلى خارج لبنان في لحظة “17 تشرين” المجيدة. وأحياناً تراه معترفاً بالفساد، ويقول: “كلّنا فاسدون”. يقولها بطريقة أو بأخرى، في لحظة لا نتوقّعها. يعطينا، نحن المواطنين العاديين، والمهتمّين بالسياسة، والغارقين فيها، يعطينا أسلحةً، ويوزّع على الثوّار معلوماتٍ تعينهم في هجومهم على “الطبقة السياسية”.
ثمة زعيم واحد يشبهه في بعض الأحيان. نبيه برّي، في آب 2015، حين كانت ثورة 17 تشرين لا تزال تحبو كحراك مدنيّ، قال لجريدة “السفير”، قبل أن تسدل الستارة: “لولا الطائفية في هذا البلد لكان المحتجون سحبونا من بيوتنا”. ويتشابه برّي وجنبلاط في الصراحة، وفي الشجاعة المفاجئة، من دون أن يكون أحدهما مضطرّاً إلى خوضها. وهما يستندان على ما يسمح لهما بألا يأبه واحدهما إلى الخوف من الناس. كلّ لديه قاعدة مذهبية وحزبية صلبة وقاسية، لا تهزّها مصاعب، ولا تخيفها نوائب.
في لحظة “هروب” الزعماء، من أصحاب المليارات والمليارات. في لحظة اختباء أكثر من ملياردير، أحدهم من طرابلس وآخر من صيدا، وثالث من بيروت، وفي لحظة لبس طاقية الإخفاء مليونيرات من بيروت وصيدا والنبطية وكسروان وزغرتا وعكّار والبترون وبعلبك ومرجعيون وبنت جبيل، وفي لحظة يرتجف أصحاب الملايين في قصورهم، خوفاً من تناقص ثرواتهم بهيركات من هنا أو كابيتال كونترول من هناك… خرج وليد جنبلاط، يوزّع ملايين الدولارات في الأماكن التي يمكن أن تحدث فارقاً في حياة اللبنانيين.
رأيناه يوزّع الحصص الغذائية في الجبل، يجهّز المستشفيات لمواجهة فيروس كورونا. يتبرّع هنا وهناك، من مستشفى عين وزين إلى مستشفى رفيق الحريري الحكومي والصليب الأحمر ومستشفى المقاصد و”دار العجزة الإسلامية” و”مؤسسة رعاية اليتيم” التابعة لـ”دار الأيتام الإسلامية”.
وهو جهّز مراكز حجر صحّي لاستقبال مرضى الكورونا، في شحيم وبرجا والجيّة
والناعمة، إلى جانب مراكز عديدة في عاليه والشوف وراشيا. كما وزّع أجهزة
تعقيم على الأمن العام والأمن الداخلي والسجون، وعلى عدد من الكنائس
والأديرة، ووزّع مساعدات إلى بلدات كسروانية. وقبلها وزّع المازوت في شتاء
الإفلاس الإقتصادي قبل الكورونا.
سيخرج من يقول إنّ جنبلاط “سرق” هذا المال. وسيخرج من يقول إنّ هذا واجب الدولة التي لم يستطع جنبلاط وخلّانه من الزعماء أن يبنوها. هذا صحيح. لكن كان يمكن لجنبلاط أن يغرّد من باريس، كما فعل سواه
“كلن يعني كلّن”، قالت ثورة 17 تشرين. هذا لأنّ ثمة شعور عارم لدى اللبنانيين يقول إنّ كلّ الذين “حكموا” لبنان منذ انتهاء الحرب، في 1990، وحتّى اليوم، شاركوا في “نهب” الدولة. والدولة هنا تعني أموال اللبنانيين التي صرفتها الحكومات المتعاقبة، والقرارات التي أوصلت إلى فقدان اللبنانيين ودائعهم وجنى أعمارهم.
و”كلّن” تعني، أوّل ما تعنيه، الزعماء الكبار، زعماء الطوائف، الأساسيين والثانويين، من رؤساء، ونواب صفّ أوّل، ووزاء دائمين، أو وزراء يشكّلون بطانة الحاشية حول كلّ زعيم، وليس الوزراء العابرين من هنا وهناك.
وليد جنبلاط واحد من هؤلاء الزعماء. يقول البعض إنّ ثروته تقارب المليار دولار، ويقول آخرون إنّها أكثر من ذلك بالكثير الكثير. لكنّ الأكيد أنّ الأراضي التي ورثها، “من مرمى الثلج إلى فقش الموج”، أي من أعالي الجبال، إلى شواطىء الدامور وخلدة والناعمة إلى أطراف صيدا… أثبت خلال الأسابيع الماضية أنّها “مسؤولية” وليست فقط “وجاهةً”. وأنّ الناس المقيمين على أطرافها، ينزل “الزعيم” إليهم ليمدّ لهم يد العون.
سيخرج من يقول إنّ جنبلاط “سرق” هذا المال. وسيخرج من يقول إنّ هذا واجب الدولة التي لم يستطع جنبلاط وخلّانه من الزعماء أن يبنوها. ربّما يكون هذا صحيحاً. لكن كان يمكن لجنبلاط أن يغرّد من باريس، كما فعل سواه. كان يمكن له أن يتبرّع بـ80 مليون ليرة، كما فعل آخر. كان يمكن لجنبلاط أن يلبس طاقية الإخفاء كما فعل العشرات، وأن يكتفي بالدعوة إلى إعادة المغتربين الذين يكنزون مئات ملايين الدولارات، كما فعل رابع وخامس وسادس. لكنّ جنبلاط من خامة مختلفة.
لا يتبرّأ وليد جنبلاط من الاتهامات بالفساد. قالها أكثر من مرّة، بلسان الصدق حيناً، وبحنجرة الذين لا يخافون أحياناً. ومهما يكن من أمر، فإذا كان جنبلاط من “السارقين” و”الناهبين”، أي من “كلّن يعني كلّن”، أو كان مظلوماً في هذا الاتهام، فإنّه لا يتساوى مع الزعماء الآخرين.
وحده وليد جنبلاط من بين الزعماء، من “مدّ يده” إلى جيبه. وحده نشعر أنّه ينقسم إلى شخصيتين. هو الإقطاعي الإشتراكي، الملياردير الذي يلبس الجينز، وقائد الميليشيا الذي يمشي بلا مرافقة، والشجاع الذي يخاصم بشّار الأسد في عزّ قوّته، ويخاصم الأميركيين إذا أغضبوه، ويخاصم حزب الله ويطالب بطرد السفير الإيراني، متى استشعر أنّه قادر على ذلك.
وحده وليد جنبلاط، يفكّ أزرار قميصه أحياناً، فنرى روبن هود تحت جاكيت الجينز.
محمد بركات – اساس ميديا