الاعتذار… دهاء أم محبّة؟ *
بقلم الناقدة اللبنانية الدكتورة ناتالي الخوري غريب
الاعتذار قولًا، وردةٌ في صورة، نَسْخُ لون بلا عطر.
والاعتذار فعلًا، بوح عطر بلا لون، وكلاهما، قطفٌ غصَّ بالشوكِ.
الاعتذار علنًا، أغرودة عصفور حين نَقْر القمح على بيدرٍ من ردِّ اعتبارٍ، ولكن، لا الاعتبار يُعار كي يُستَعَاد، ولا الوليمة تُشبِع جوعًا حين السنابلُ فارغات، ولا الشدو عند المضعِ يخلو من نشاز، أو يحلو له الاستماع.
والاعتذار سرًّا، رشوةٌ غيرُ مغلّفةٍ بورقة هديّة، ليس استخفافًا بالخطأ المرتكب، بل بمن ارتُكب بحقّه الخطأ، وتعاليًا عليه، في ضمان حقوق الستر، إن الخطأ لم يُغتفر.
بعضُ الاعتذار ألعوبةُ دهاء حُبِكَت لتطيل أمدَ العلائق، وهي من أمائر التذاكي تراهن استغباء الآخر، ليكون الانقطاع في مواقيت تُحدّد سلفًا.
وبعضُ الاعتذار، سواعدُ محبّةٍ لجرّ الحجارة بعيدًا من منافذ العبور ، لتبقى في مدى التلاقي بشائر الحبور بكتفٍ تلقى عليها رؤوسٌ لطالما سندت عليها شكواها.
بعضُهم يجعل الاعتذارَ ترميم غطاء البئر التي فرغت ماؤها، لأنّ الهوّةَ عميقةٌ، وسقطةُ الزمن لا ترحم.
وبعضهم يجعله وقفةَ ذلّ في دوامِ ذكرِ تبعات الخطأ والهدم.
وبعضهم يجعله تواضعًا يدلّ على كبر النفس والروح وحميد الأخلاق.
كلّنا خطّاؤون! نعم. وكلّنا يعلم أنّ للأخطاء أثمانًا تُدفع من رصيدٍ جارٍ يُقَسِّط دينًا قديمًا، وما جُمِّد في حينه لا فائدة تُرجى منه وقد صار حسابًا وهميّا.
كلّنا خطّاؤون! نعم. لكن بعضنا يقوم بالخطأ بعد إصرارٍ كيديّ وتصوّرٍ لردّة الفعل، فيعتقد أنّه قادر أن ينهيه باعتذارِ تمتمةِ الشفاه لعبارة”ما تواخذني”، أو بحدّه الأدنى المعبّر عن الاستهتار ب”sorry”. وبعضنا يقوم بالخطأ حين فقدان القدرة على التحكّم بمشاعره التي تتلاعب فيها أهواءُ وشوشاتٍ تصل إلى الأذن؛ والأحكامُ مسبقة.
في اللغة، الاعتذار من عذر، “الحجّة التي تقدّم لنفي ذنب او تبريره”، وهي أقسى من الملح على الجرح، وإن صحّت قولة السموأل بأنّ”جحود الذنب ذنبان”، فهل يمكن لكلّ اعتذار أن يمحو من الذنوب ذنبًا؟ فهل ينفع اعتذارُ مهندسٍ بنى لك قصرًا مائلا مهدّدًا بالسقوط في أيّ لحظة، وقد وضعتَ فيه جنى العمر تعبًا وعرقًا وحلمًا؟! هل يجدي اعتذار من قدّمت له روحَك فراهن عليها عند أوّل طاولة قمار؟!
ولكن يبقى للنوايا الكلمة الفصل التي تجسّدها الأفعال قبل الاعتذار وبعده.
ومخطئ من قال إنّ النوايا تعشق لعبة الخفايا! فهل تخفي المرايا وجوهًا مرّت أمامها، وإن مضت؟! خيرًا كانت أم شرًّا؟!
الإنسانُ كرامةٌ وضميرٌ من محبّة… بهما يكون، أو لا يكون! والصفحُ بعد َكثيرِ أخطاء واعتذارات تحوجه طينة الملائكة، وبأيّ عدلٍ يُرجى إثمار من شجرة كُسِرَت جميع أغصانها؟!
فالكرامة وإن سهت صفحًا، أو تساهلت حبًّا، لا يعني أنّها غفت، فالغفوة منها موتٌ، يخجل من دفنه الترابُ، “والعفو عند المقدرة” أمر جلل، ما بعده يُسأل عن حساب، فصلًا أو إعادة وصل.
فالطين ينتعش بماء الحريّة، وروح النبل ينمو بالصدق، أمّا الاعتذار والصفح والكرامة، فعناصر غير متجانسة في كأس واحدة، حُكم على الإنسان تجرّعها.
*من كتاب أزاهير العبث، إصدار دار سائر المشرق 2018