المنتصر يستولي على المزرعة والمهزومون يناقشون “الطائف” و”الحياد”
عندما قرر لبنان عدم دفع سندات اليوروبوند، كان يفترض أن يكون المصرون
على هذا القرار عالمين بتبعاته، والتي قد تصل إلى منع الدولة اللبنانية من
الاستيراد.
لماذا ضخامة الاستيراد؟
لم تتحرك حتى الآن الشركات
الاستثمارية المالية العالمية قضائياً ضد الدولة اللبنانية. لكنّها ستتحرك
حتماً في هذا السياق السياسي الدولي الضاغط على لبنان. فهذا النوع من
الدعاوى ينتعش في ظل الأزمات والضغوط السياسية. وتكون شركات الاستثمار
قادرة على مصادرة ما تريد الدولة استيراده، أو مصادرة مبالغ مالية تحوّل
لشراء مواد أساسية، كالفيول والمحروقات.
هكذا يواجه لبنان مصاعب في حصوله على اعتمادات لتأمين مشترياته الدولية. والأسباب حتى الآن تعود إلى ذريعة استيراد بأحجام أكبر بكثير من حاجة لبنان، ليتهمه المجتمع الدولي بالتهريب إلى سوريا.
في حال استمرّت الضغوط السياسية، ستتفاقم صعوبات الحصول على المواد المستوردة. لذلك تسارع السلطة اللبنانية إلى مطالبة بعض الدول العربية بالمساعدة وتأمين الفيول والمحروقات، خشية قرار دولي يمنع لبنان من استيرادها.
هذه النتيجة يفترض أنها كانت واضحة لدى المعنيين عند اتخاذ
قرار عدم تسديد اليوروبوند، لكنهم أصرّوا عليها. تماماً كإصرارهم على رفع
سقوف الضغوط إلى أقصى الحدود على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وتحميله وحده
مسؤولية انهيار سعر صرف الليرة، فيما لا يلتزم بغير أوامرهم ويعتمد
سياستهم منذ أشهر. وهذه سياسة ستؤدي إلى مزيد من الانهيارات، لكنهم لم
يتوانوا عن إدعاء الانتصارات بعد كل لقاء يعقدونه مع سلامة، معتبرين أنه
ينفذ ما يطلبونه منه.
للسيطرة على الاستيراد
في حال مُنعت
الدولة اللبنانية من استيراد هذه المواد الأساسية، ستُلقى على عاتق شركات
خاصة استيراد احتياجات لبنان. لكن الشركات المعنية بهذا النوع من الاستيراد
تعرّضت لحملات هائلة من الفريق الذي امتنع عن دفع اليوروبند. وهو فريق
يحوز إثباتات كثيرة تدين هذه الشركات قضائياً، وهو قادر على تحريك ملفاتها
القضائية ساعة تقتضي مصلحته. لذا ستكون الشركات مطواعة بين يديه، وتأتمر
بما يريد، ويصبح له حصّة فيها.
وقطاع الكهرباء
ما ينطبق
على اليوروبوند، ينطبق على الكهرباء، القطاع المهترئ والمترهل وسط موجات
هائلة من ادعاء الإنجازات والإصلاحات. والقيمون على الملف يعلمون أن لا
إصلاح في قطاع الكهرباء.
ولم تعد الحال هنا مجرّد فساد أو نزاعات على غنائم، بل الخطر
أن يكون جزءاً من سياسة متعمّدة تقضي على هذا القطاع نهائياً ليرثه آخرون
بأبخس الأثمان. وحينذاك تسهل “خصخصته” أو الأحرى تملّكه ممن يديرون هذا
الملف، ولا يتخلّون عنه ولو على قطع أعناقهم. وقصة النزاعات والصراعات
الطائفية والمناطقية تصبح تفصيلاً أمام هذه المعادلة.
والاتصالات
ومن
الكهرباء إلى الاتصالات. نماذج آلية التعيينات الأخيرة التي اعتُمدت في
مجالس إدارة شركات الاتصالات، وارتباط هذا القطاع وثيقاً بقطاع الكهرباء،
وبأزمة المحروقات – فلا أنترنت مثلاً ولا أجهزة إرسال بلا محروقات وكهرباء –
إشارات دامغة على أن مصير قطاع الاتصالات سائر في السياق نفسه.
المنتصر في الانهيار الكبير
الحرب
المفتوحة مع مصرف لبنان وسياساته، لا بد أن يكون خلفيات كثيرة. وهذه ليست
خارج السياق إياه. وفي العمق هذا هو سبب الخلاف الحاد بين الحكومة والمصرف
المركزي، على تحديد الخسائر والأرقام في الخطة المالية والإقتصادية. لقد
كان هناك إصرار على تحميل المصارف وحدها المسؤولية عن الأفلاس بدون الدولة.
هذا الخلاف هو ما يعيق أي تقدم في المفاوضات مع صندوق النقد.
وفي ظل معارضة قوى أساسية خيارات الصندوق، سيجد هؤلاء أنفسهم مضطرين لاجتراح حلول محلية. وهذه الحلول ستكون “الاستثمار” في أملاك الدولة وموجوداتها، على طريقة الخصخصة أو التملّك. وهي مرتبطة بالطرح الدائم: إعادة هيكلة المصارف أو دمجها. وهذا ما أنشأ له مصرف لبنان يوم الخميس 16 تموز، لجنة جديدة، للبحث في كيفية دمج المصارف وتكبيرها وإغلاق الصغيرة منها.
وفي محصلة هذا العرض كله: ليس ما يجري مجرد خلافات سياسية
واقتصادية واختلافات في الرؤى، بل مشروع انتصار فريق محدد يستغل هذا
الانهيار الكبير.
… والمهزومون
مثال على ما يجري الآن
في لبنان: هناك ثمة رجل من قرية لبنانية صغيرة، غادر قريته إلى بيروت
صغيراً وفي حال فقر مدقع. نما الرجل واشتد عوده، وأصبح من كبار
الرأسماليين. وعندما سئل عن مسقط رأسه، قال: “نحن لدينا مزرعة اسمها…”،
ثم ذكر اسم قريته.
في سياق المشروع الكبير الذي تُنفذ فصوله اليوم في لبنان المنكوب، ثمة من يقول (أي المنتصر إياه): لديّ مزرعة اسمها لبنان. أما الآخرون فلا زالوا منشغلين في الدفاع عن اتفاق الطائف، ويناقشون سياسة الحياد أو الانتماء للمحاور، ويتقاتلون على التعيينات، ومنها خفراء الجمارك: بالمناصفة أم بالكفاءة؟!
المدن