كأنه ما كان هنا.. عون يعارض “العهد” ويفتح الحرب
كأنه واصل لتوّه، ولم يكن قبل 17 تشرين. خرج إلى الناس شاكياً همّه وهمومهم. هو الذي لم يتغيّر، ويعرف كيف يضع نفسه في خانة المتعرض لحرب كونية، أو لمؤامرات الأمم.
قبل عشرة أيام من الذكرى الرابعة لانتخابه رئيساً للجمهورية، اختار رئيس الجمهورية ميشال عون أن يعود إلى خطابه القديم، خطاب رئيس التكتل النيابي المعارض، أو خطاب الرجل السياسي المنفي، أو اختار العودة إلى ما قبل 1990. ميشال عون هو نفسه قائداً للجيش، معارضاً سياسياً ومنفياً، رئيساً لتكتل نيابي، وصاحب أكبر كتلة وزارية في أكثر من حكومة، ورئيساً للجمهورية. تحدّث وكأنه لا شيء من كل هذه المواقع والمناصب. خرج ليقول إنه معارض، لا بل أشرس المعارضين لكل العهود ومن بينها عهده. فحوى الكلام عودة إلى لازمة جبران باسيل “ما خلّوني”. تخلّى عن صلاحياته أو صفته “القوي” بالقول: أنا ليس لدي أي صلاحية تنفيذية أو تشريعية، ولم أعد قادراً على فعل شيء، وصلنا إلى finish.
الضرب بالتهذيب
رمى
عون الكرة في ملعب الآخرين، هو شخصياً غير قادر على الإطاحة بالاستشارات
النيابية، وسعد الحريري ضمن ورقة التكليف التي يرفض عون انتزاعها منه. لذلك
أراد افتعال مشكلة سياسية مع كل القوى، لعلّه يعيد خلط الأوراق فيجهض موعد
الاستشارات. وبالتالي، إجهاض عملية تكليف الحريري.
لم يكن عون مرتاحاً، فلجأ إلى وضع النواب أمام مسؤولياتهم في
عملية التكليف والتأليف. الضعف سيتجلى أكثر في حال بقاء الاستشارات في
موعدها وتكليف الحريري. سئل عون إذا كان يعتبر أن الحريري عاجزاً عن تشكيل
حكومة اصلاحية فأجاب: “أنا قلت ما قلته وكل واحد لديه تاريخ سياسي معروف
منيح. وأنا أقول هكذا تهذيباً”. لم يرد عون ضرب الحريري وإحراجه فقط، إنما
عاد إلى استخدام ورقة الإستراتيجية الدفاعية، في محاولة لحشر حزب الله،
فاعتبر أنه بعد تشكيل الحكومة سيدعو إلى اجتماع للبحث بالاستراتيجية
الدفاعية، ومواضيع أخرى.
دفاتر قديمة وجردة حساب
بدأ
عون كلمته من المدى الواسع لتحولات المنطقة، معتبراً أن التطورات ستقلب
الوقائع رأساً على عقب. سائلاً عن موقع لبنان إزاء هذه التحولات الكبرى، كي
لا يكون متلقياً وغير فاعل فيما نشهده، فيكون فتات مائدة المصالح
والتفاهمات الكبرى. وصف كلمته بأنها كلمة مصارحة للبنانيين، “متفهماً أوجاع
الناس”. استخدم ذلك للعودة إلى مهاجمة القوى السياسية التي تحالف معها منذ
سنوات. والآن يعود إلى طرح نفسه بوعود تخديرية، فـ”بقي الإصلاح مجرد إصلاح
يكرره المسؤولون بينما هم يضمرون عكسه تماماً”. هنا حمّل المسؤولية إلى كل
الطبقة السياسية عازلاً نفسه عنها. وهو بذلك قصد سعد الحريري، ووليد
جنبلاط ونبيه برّي، الذين يعتبرهم دخلوا في تحالف ضده.
اعتبر عون أنه بسبب المصالح الشخصية أصبح الفساد في لبنان
مؤسساتياً ومنظماً متجذراً في السلطات والإدارات. ووصف نفسه بأنها حامل
مشروع الإصلاح منذ عودته من منفاه في فرنسا، معتبراً أن مواجهته قد أتت من
قبل الجهات المتضررة من مسار الإصلاح.. ووفق منطق أفضل طريقة للدفاع هي
الهجوم، قرر عون مهاجمة كل القوى السياسية وتبرئة نفسه (وتياره وصهره
ضمناً)، محملاً شركائه في الحكم وكل من انتخبوه رئيساً مسؤولية تعطيل
المشاريع الإنمائية والخطط الإقتصادية، ومشروع الكهرباء وحماية المواطنين
وحقوقهم الصحية والحياتية. عاد إلى دفاتره القديمة، هاجم وزارة المالية،
صندوق المهجرين، الهيئة العليا للإغاثة، مجلس الإنماء والإعمار، مجلس
الجنوب، مصرف لبنان وحاكمه. هذه مواقف كان يكررها في كل اجتماعاته منذ ما
بعد ثورة 17 تشرين، معتبراً أن من يتحملون مسؤولية الإنهيار هم نبيه ببري
ووليد جنبلاط وسعد الحريري ورياض سلامة. اليوم اختار إخراج هذا الموقف إلى
العلن، علماً أنه سابقاً توجه إلى كل سائليه مطمئناً إياهم: “أنه يحضر
لمعارضيه جردة حساب وسيضعهم في خانة الاتهام، بتحميلهم مسؤولية كل
الانهيار، وعرقلة مسيرته الإصلاحية”. سيكون لهذا الكلام تبعات سياسية كثيرة
في المرحلة المقبلة، تؤكد أن لبنان لن يذهب إلى تسوية أو تهدئة، إنما إلى
المزيد من المعارك والتوترات والحروب السياسية.
قطع طريق الحريري
في
موضوع تشكيل الحكومة، قال عون: “اليوم مطلوب مني أن أشارك في عملية تكليف
رئيس للحكومة وتأليفها، سائلاً إذا ما كان من سيُكلف ويؤلف سيلتزم ببرنامج
الإصلاح، وأنتم أيها النواب تتحملون المسؤولية”. وأضاف:”قلت كلمتي ولن
أمشي، وأدعو النواب إلى تحمل مسؤولية انعكاس التكليف على التأليف. سأبقى
أتحمل مسؤولياتي في التكليف والتأليف وفي كل موقف وموقع دستوري، وبوجه كل
من يمنع عن شعبنا الإصلاح والدولة”. معروف أنه يحاول قطع الطريق بشتى وسائل
على عودة سعد الحريري. وضع الأمر لدى الكتل النيابية، داعياً إياها إلى
تحكيم ضمائرها.
يعني ذلك أن عون يحاول استدراج مواقف لبعض الكتل النيابية التي تدور في فلكه، فتعلن استجابتها لنداءاته وتجنّباً لتكرار المسارات السابقة، فلا بد من تأجيل الاستشارات، وهو يستجيب لمطالبها. فلا يتحمل هو مسؤولية هذا القرار. كذلك قال إن التكليف سينعكس على التأليف، وكأنه بذلك يقول إنه لن يمنح الحريري تكليفاً على بياض، خصوصاً أنه يحمّله مسؤولية الفساد. وبالتالي، عودته من دون شروط وتكبيل، لا يمكن إلا أن تكون إمعاناً في ممارسة الفساد. وهذه ذريعة جديدة يريد استخدامها لعرقلة عملية تأليف الحكومة، تحت عنوان لا يمكن إصلاح ما تم إفساده باعتماد السياسات ذاتها.
المدن