حقائق وأرقام عن مافيا احتكار الدواء وتواطؤ السياسيين
في العام 1971 – حين كان هناك دولة ومؤسسات وقضاء ووزراء أكفاء أنقياء، ولكن كان تحالف “مافيا الدواء والمستشفيات والسياسيين” أقوى من الدولة – استقال وزير الصحة إميل البيطار. واليوم، حيث لا دولة ولا قضاء ولا وزراء، لم يكن الناس بحاجة إلى مسرحيات مداهمة مستودعات الأدوية وحليب الأطفال، ليعرفوا أن هذه المافيا، وهي جزء من “مافيا القطاع الخاص والسياسيين”، ليست أقوى من الدولة فحسب، بل باتت هي الدولة أيضاً.
فالشركات المستوردة للأدوية والمستلزمات الطبية تخفي المنتجات المستوردة بدولار مدعوم، لتهريبها إلى الخارج أو بيعها بأرباح مضاعفة، بعد رفع الدعم. وهكذا تصبح صحة الناس وعذابات المرضى وحشرجات المحتضرين على أبواب المستشفيات، مجرد وسيلة ضغط لنهب ما تبقى من ودائع الناس.
حلول تعرقلها “المافيا”
حان الوقت كي يعرف الناس أن الحلول معروفة ومعتمدة في كل دول العالم المتقدمة والنامية، وأن “مافيا القطاع الخاص والسياسيين” قامت بإفشال وعرقلة كل محاولات تطبقيها منذ سبعينات القرن الماضي. وهذا يضع الناس أمام مسؤولية ابتداع طرق جديدة لفرض هذه الحلول، كأن تكون إحدى شعارات كل تحرك شعبي مقبل، بدلاً من الشعارات التي ما أنزل الله بها من سلطان من نمط: “الشعب يريد اسقاط النظام”، أو “انتخابات نيابية مبكرة”. وللدلالة على ذلك نستعرض بعض الحلول وكيف أُجهضت:
1. إلغاء الوكالات الحصرية
يعتبر إلغاء الوكالات الحصرية مكمن الداء في أزمة الدواء. والحل هو إلغاء المرسوم المشؤوم رقم 34 لعام 1967، الذي يحصر عقد التمثيل بوكيل واحد. وقد جرت أول محاولة جدية لإلغاء هذا المرسوم من قبل الوزير أميل البيطار في حكومة الشباب عام 1971. والمفارقة، أن “مافيا الدواء” واجهت المحاولة بالأسلحة التي تستخدمها اليوم، فأخفت الأدوية من الأسواق، ووقف المرضى في طوابير أمام الصيدليات. وعندما تقدم البيطار بقانون معجل مكرر إلى مجلس النواب لتوفير غطاء قانوني لمواجهة المافيا وإجبارها على توفير الدواء، طارت الجلسة لعدم اكتمال النصاب، وطار البيطار وطار معه عدد من الوزراء تضامناً ويأساً من إمكان الإصلاح. وقد كرر المحاولة أكثر من وزير على مر السنوات الماضية، بلا أي نجاح يستحق الذكر.
2.تفعيل المكتب الوطني للدواء
المكتب مكلف قانوناً باستيراد الأدوية وبيعها مباشرة للجهات الضامنة كالضمان الاجتماعي، وتعاونية موظفي الدولة، وللأجهزة العسكرية والأمنية. لكنه ظل منذ إنشائه معطلاً. وعندما سعت الحكومة إلى تفعيله ورصدت 5 مليارات ليرة لذلك، نجحت المافيا بتعطيل التفعيل وطارت الـ 5 مليارات.
3.تعميم أدوية “الجينيريك”
فرضت “مافيا الدواء والسياسيين” أن يكون لبنان من الدول القليلة في العالم الذي يستخدم أدوية “براند” بنسبة تتجاوز 85 في المئة. وهي تمتاز بارتفاع أثمانها وضخامة أرباحها لأنها لا تزال خاضعة لحماية براءات الاختراع. وحصرت استخدام أدوية “الجينيريك” بنسبة 15 في المئة فقط. مع أن هذه النسبة تصل إلى 90 في المئة في أميركا، وحوالى 70 في المئة في فرنسا. كما منعت المافيا تصنيع أدوية “الجينيريك” في المصانع اللبنانية. ومن الحكايات الطريفة في هذا المجال، تلك المتعلقة بالمرسوم الصادر في العام 1999 والقاضي بفتح باب الاستيراد شرط أن تكون الأسعار أقل بنسبة 25 في المئة عن سعر السوق. فقد تبين أن “مافيا الدواء والسياسين” كانت على علم مسبق بالقرار قبل صدوره بعدة أشهر. فبادرت إلى شراء أو التعاقد على شراء الأدوية ذات الأسعار المنخفضة وقامت بتسجيلها في وزارة الصحة لقطع الطريق على من تسول له نفسه الاستيراد. أما من تجرأ واستورد فوضعوه أمام خيارين: إما بيع الكمية المستوردة لهم وتحقيق ربح معقول، أو إغراق السوق بأدوية مماثلة “بنص حقها”.. وإفلاس المستورد، فرضخ من تجرأ… ولم يجرؤ مرة ثانية.
4.إحياء المختبر المركزي
يعتبر النائب السابق إسماعيل سكرية المختبر المركزي “أم الفضائح”، لأنه يشكل الشرط الأساسي للتوسع في استخدام أدوية “الجينيريك”. إذ يجب أن تخضع هذه الأدوية للتدقيق في جودتها قبل اعتمادها. ولا يجوز الاعتماد على الشهادات الصادرة عن الشركات المنتجة ولا المختبرات الخارجية كما يحصل حالياً. ولبنان الذي كان سباقاً في إنشاء مختبر للأدوية، بات اليوم البلد الوحيد في العالم الذي لا يمتلك مثل هذا المختبر. فقد شهد المختبر المركزي تدميراً منهجياً وتعطيلاً لمحاولات إحيائه التي كان آخرها في العام 1998 عندما أعد مشروع لذلك والحصول على معونة قدرها 600 ألف دولار من الحكومة السويدية. ولكن بدلاً من ذلك طار المختبر الواقع قرب مقر الرئاسة الثانية في عين التينة، لدواع أمنية، وطارت معه المعدات والهبة السويدية.
“منهبة” ضخمة
لتوضيح صورة “المنهبة” تجدر الإشارة إلى أن الحصرية ومنع أدوية الجينيريك وتعطيل المكتب الوطني والمختبر المركزي، هي حزمة متكاملة تستهدف تضخيم السوق اللبنانية الصغيرة نسبياً، وحصر الأرباح بعدد قليل من الشركات. فنلاحظ مثلا كيف رفعت فاتورة الدواء من 362 مليون دولار في 1996 إلى 1.9 مليار دولار في 2019، ما يعني أن حصة الفرد حوالي 281 دولار سنوياً وهي بين الأعلى في العالم.
وهذه المبلغ الضخم يوزع على 40 شركة مسجلة لدى نقابة مستوردي الأدوية. ولكن أكبر خمس شركات منها تستأثر بأكثر من 60 في المئة من السوق. أما الأرباح الصافية السنوية فتقدر بحوالي 250 مليون دولار. وبحسبة بسيطة، فإن حصة كل شركة من الخمسة الكبار تكون حوالي 30 مليون دولار وحصة “صغار الكسبة”، حوالي 3 ملايين دولار. ولكن نقابة مستوردي الأدوية أعلنت أن الأرباح لم تتجاوز 100 مليون دولار في 2018، ما يعني وفقاً لحسابات النقابة أن حصة كل واحد من الخمسة الكبار لا تقل تقل عن 12 مليون دولار سنوياً، يعني مليون دولار كل شهر.
خفايا وسائل النهب
اعتمدت مافيا الدواء والسياسيين وسائل مبتكرة لتضخيم السوق والأرباح: منها على سبيل المثال زيادة غير منطقية لعدد الأدوية، والذي بلغ 7200 دواء، من بينها، بحسب سكرية، نسبة 30 في المئة ذات فعالية ضعيفة أو مجهولة المصدر أو مسحوبة من الأسواق. أما وزير الصحة السابق وائل ابو فاعور، فيقول إن 50 في المئة من الأدوية الموجودة في السوق لا حاجة علاجية لها، بل هي مجرد أسماء تجارية لذات التركيبة الدوائية، ويتولى الأطباء تسويق الجديد منها وإقناع المرضي بأنها الأفضل، رغم ارتفاع أثمانها، مقابل عمولات ورحلات “سفر وسياحة” لحضور المؤتمرات.
وسيلة النهب الثانية تتمثل بفرض أسعار للأدوية، هي الأغلى في العالم وبأضعاف سعرها الحقيقي. ورغم المساعي المتكررة لتخفيض سعرها، لم يسجل أي نجاح. وغالباً ما تلجأ “مافيا الدواء” إلى امتصاص أي صحوة مفاجئة من قبل الحكومة، بإجراء تخفيضات على بعض الأصناف كما حدث خلال صحوة الوزير أبو فاعور. ولكن التخفيض طال بشكل أساسي الأدوية رخيصة الثمن والتي تشكل 20 في المئة من الاستهلاك، وظلت الأدوية الأخرى مثل أدوية الأمراض المزمنة والأعصاب على حالها، بل ارتفع ثمن بعضها. وللدلالة على حجم المبالغة بالأسعار وهامش الربح، نشير إلى تخفيض سعر دواء مسيل الدم “بلافيكس” مثلاً، من 110 الآف ليرة إلى 70 ألف ليرة.
قرع الجرس
يوجد وهم كبير في الرهان على إمكان إصلاح قطاع الدواء في ظل حكم “مافيا السياسيين والقطاع الخاص”. والحل هو كسر الحلقة الجهنمية للاحتكار باستيراد أدوية “الجينيريك” أو أدوية “براند”، رغم وجود وكيل حصري لها. فلتبادر إلى ذلك مثلا الأحزاب والشخصيات والجمعيات المعارضة والمؤيدة لنظام اللامركزية، فتقدم نموذجاً يمكن أن يحتذى، خصوصاً في ظل ما يقال عن أن بعضها يستعد لاستيراد لقاحات كورونا والقيام بحملة تلقيح لمحازبيه ومؤيديه وفي مناطق نفوذه. أو لتبادر منظمات المجتمع المدني التي تفرخ كالفطر، وكذلك المستشفيات الجامعية والمستشفيات المحسوبة على طوائف وزعماء وأحزاب، إلى إنشاء مختبر مركزي للدواء أو تطوير مختبر قائم لضمان جودة وسلامة الأدوية المستوردة.
الحلول كثيرة وممكنة، ولكن من يقرع الجرس؟
المدن