
مشقّة لبنان وسوريا..أزمة في البر وفي البحر أيضآ


كتب نادر حجاز في ألترا صوت
على قاعدة “شعب واحد في بلدين”، وشعار “وحدة المسار والمصير”، تعامل نظام الأسد السابق مع لبنان طوال عقود. فلم تحضر مسألة الحدود يومًا في حسابات دمشق، وربما تكون الإرث الأصعب للإدارة السورية الجديدة مع تكرار الاشتباكات الحدودية بين البلدين، وآخرها في بلدة حوش السيد علي وأدت إلى مقتل 7 لبنانيين و3 سوريين.
الإهتزاز الأمني يعيد إلى الواجهة مسألة ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا، رغم التعقيدات الكبيرة التي ترافقه من مزارع شبعا جنوبًا، مرورًا بالحدود الشرقية مع البقاع والشمالية بين حمص وعكار، وصولًا إلى الحدود البحرية حيث المستقبل الأهم في قطاع البترول والغاز.
بين “الحزب” والعشائر
كانت المنطقة الحدودية في السلسلة الشرقية لجهة بعلبك – الهرمل طوال سنوات تحت سيطرة حزب الله بشكل كامل، وتُعتبَر خط الإمداد الأساسي بين إيران ولبنان عبر سوريا.
هذا الواقع تغيّر بالكامل بعد سقوط النظام السوري، والحرب الإسرائيلية المدمّرة على لبنان، وإنكفاء الحزب عن سوريا. ما جعل من هذا الخط الحدودي منطقة تماس وحذر دائم، لا سيما وأن عصابات التهريب لا تزال تنشط بين البلدين، وربما بشكل متزايد. ويشكّل نشاط هذه العصابات سببًا رئيسيًا للإشكالات الحدودية الأخيرة، حيث يسارع الحزب لنفي أي علاقة له بها، لتتصدّر العشائر الموجودة هناك المشهد، ويبقى سلاح حزب الله في الخلفية.
واقع يفرض الإسراع في طرح ملف الحدود بكل جرأة، بدءًا من ضرورة ضبطها أمنيًا والانتقال لاحقًا إلى التعمّق بالبحث أكثر، الأمر الذي يشكل محور اللقاء الثنائي المرتقب بين وزيري دفاع لبنان وسوريا في مدينة جدة.
القرار 1680
يشدد الكاتب السياسي اسكندر خشاشو، في حديث لـ”الترا صوت”، على أن “لبنان ملزَم بضبط الحدود وفق القرار الدولي 1680، الذي يفرض عليه الإنتقال فورًا نحو ترسيم هذه الحدود، أقلّه من جهته، لإظهار صورة أمام المجتمع الدولي أنه مستعد للإلتزام بالقرارات الدولية”.
والقرار 1680 كان صدر عن مجلس الأمن الدولي في العام 2006، ودعا بشكل واضح إلى ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا وإقامة علاقات دبلوماسية رسمية بين البلدين.
وهنا يشير خشاشو إلى أن “الإدارة السورية الجديدة لا تزال في مرحلة ضعف، وربما الموضوع ليس من ضمن أولوياتها الآن، إنما الملف بدأ يتسبّب لها بمشاكل ويتسبّب باهتزاز أمنها، وبالتالي أصبح الدخول في مفاوضات حول الحدود أمر أساسي. الحلول الأسرع حاليًا تتمثل بضبط النقاط المتفَق عليها، أما المواقع المتنازَع عليها ممكن الاتفاق على نقاط مشتركة حولها كي لا تبقى مفتوحة وتشكل خطراً على أمن الدولتين وليس دولة واحدة”.
ويضيف “في عهد نظام الأسد كان هناك رفض تام للشروع بأي عملية ترسيم، وكان يُنظَر للبنان كمحافظة سورية وأن اتفاقية سايكس بيكو جاءت لتقسيم المنطقة العربية. لكن اليوم مع الدولة السورية الجديدة يُفترَض فتح هذا الملف مجددًا، بدءًا من سيطرة الدولتين على الحدود والانطلاق من النقاط المتفق عليها والالتزام بها، والانتقال الى المناطق المختلف عليها لمحاولة الوصول الى نتيجة، وهذا الأمر يحتاج الى جهد ووقت، ورغم صعوبة الوصول الى حلّ قريب لكن الأمر ليس مستحيلاً في المستقبل”.
منذ ما قبل الإستقلال
المشكلة قديمة جدًا، حيث يكشف خشاشو لموقع “ألترا صوت”، أن “الحدود بين لبنان وسوريا الممتدة على 375 كيلومترًا، من أكثر الملفات تعقيدًا بين الدولتين، وهي غير مرسّمة بشكل كامل ودقيق. والمرة الأخيرة التي وُضعت فيها خرائط الأمم المتحدة كانت قبل استقلال البلدين في العام 1943 ولم تُعتمَد بشكل نهائي. ومنذ الاستقلال حتى اليوم سُجلت أكثر من محاولة لضبط الحدود وإعادة ترسيمها وآخرها في عهد رئيس الجمهورية ميشال سليمان بين 2009 و2015. ولكن لم يتم الاتفاق حينها على 36 نقطة حدودية، خصوصًا تلك الممتدة من السلسلة الشرقية إلى الشمال من جهة، حيث حصل تداخل بين السكان جعل الوضع أكثر تعقيدًا، فهناك قرى سورية يسكنها لبنانيون بالكامل كما أن هناك قرى في وادي خالد العكارية لبنانية يسكنها سوريون. إضافة إلى مزارع شبعا وتلال كفرشوبا من جهة أخرى، والتي تقع ضمن نقطة النزاع اللبناني الاسرائيلي السوري”.
لبنانية مزارع شبعا
تكمن الإشكالية اللبنانية السورية الكبرى في مزارع شبعا، التي يقول لبنان الرسمي بلبنانيتها، لكن هذا الإدعاء لا يكفي، وهو يحتاج إلى اعتراف سوري رسمي، الأمر الذي لم يحصل وبقي معلّقًا لا بل لم يعيره النظام السوري السابق أي اهتمام، رغم الجدل اللبناني الدائم حول الموضوع.
ومزارع شبعا في قضاء حاصبيا، تقع عند الحدود بين لبنان وهضبة الجولان، وهي منطقة تابعة عقاريًا لبلدة شبعا ومحتلة من إسرائيل منذ عام 1967. وبالتالي مسألة الترسيم في هذه منطقة معقدة جدًا ومرتبطة بشكل مباشر بالأطماع التوسّعية الإسرائيلية، خصوصًا وأن المزارع ومحيطها تستثمر فيها إسرائيل وحوّلتها إلى منطقة سياحية متقدمة، وانسحابها منها غير قابل للنقاش لدى الإسرائيلي.
وبالعودة إلى هوية هذه المزارع، فإن الاشكالية برزت بشكل أكبر بعد الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان في العام 2000 وترسيم الخط الأزرق وفق القرارين الدوليين 425 و426، فيما بقيت مزارع شبعا وقرية النخيلة اللبنانية وتلال كفرشوبا محتلة، والتي تقع للمفارقة ضمن نطاق عمليات قوات حفظ السلام في الجولان “الأندوف”، وليس قوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان “اليونيفيل”، وبالتالي هي خاضعة للقرارين 242 الصادر عام 1967 و338 الصادر عام 1973.
بالخلاصة، الكرة تبقى في الملعب السوري، ويُطرَح السؤال القديم الجديد على طاولة الإدارة السورية الجديدة، فهل يعترف الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع بما تجاهله النظام السابق على مدى سنوات؟
الحدود البحرية
أمّا الملف الحدودي الذي لا يقلّ حساسية بين البلدين، فهو ترسيم الحدود البحرية والمنطقة الاقتصادية الخالصة، والذي سيثار حتمًا في الفترة المقبلة.
وتكشف المحامية المتخصّصة في قوانين النفط والغاز، لما حريز، في حديث لـ”الترا صوت”، أن “الحدود البحرية بين لبنان وسوريا ترتبط جيوسياسيًا بشكل تلقائي بكل من قبرص وتركيا واليونان، ولن تكون معضلة بين لبنان وسوريا فقط، خصوصًا بعد عودة ملف ترسيم الحدود البرية بين سوريا وتركيا الى الواجهة بعد سقوط النظام السوري، والعالقة لارتباطها باليونان أيضًا”.
تختلف مقاربة كل من بيروت ودمشق هنا أيضًا، فالخط الذي تعتمده سوريا في ترسيم حدودها البحرية، يختلف عن ذلك الذي اعتمده لبنان في العام 2011.
وهنا تشدد حريز على وجوب اعتماد طريقة واحدة للترسيم، شارحة أن “لبنان يعتمد الخط الذي يبدأ من النقطة الأخيرة برًا عند الحدود الشمالية باتجاه البحر، والذي يتأثر بالتضاريس الموجودة، فحيث يكون هناك خليج يميل باتجاه لبنان وحيث يكون هناك جون يميل باتجاه سوريا وهكذا دواليك. وطبعًا هناك تأثير للجزر الموجودة. وعندما رسّم لبنان حدوده البحرية في العام 2011، وعلى أساسها وضع خريطة البلوكات، من بينها البلوكين 1 و2 في الشمال، اعتمد هذه الطريقة وأعطى الأثر المطلوب لجزيرة النخيل”.
ولكن ماذا عن الجانب السوري؟ تقول حريز: “ما حصل أن سوريا عندما رسّمت في السنوات الماضية حدودها البحرية، لم تعتمد هذه الطريقة، واعتبرت أن هناك تأثير فقط لجزيرة أرواد، وبالتالي دخلت إلى الحدود البحرية اللبنانية وقضمت جزءًا كبيراً من البلوكين 1 و2 اللبنانيين. وفي الوقت نفسه منحت عقود استكشاف ومسوحات زلزالية لشركة روسية، وفق الخريطة المعتمدة من قبل دمشق”.
وعن المسار الذي يجب أن يُعتمد لحل هذا التناقض، تشدد حريز على وجوب عدم الذهاب إلى مفاوضات، تجنبًا للتنازلات من الجانب اللبناني إنما يجب إجراء حوار تقني بين لبنان وسوريا حول ترسيم الحدود البحرية واعتماد الآلية المناسبة، ولدى لبنان الحجج القانونية استنادًا للقوانين الدولية واجتهادات المحاكم الدولية التي تدعم الطريقة التي اعتمدها في الترسيم البحري. كما يجب تعيين لجنة تقنية مؤلفة من الجيش اللبناني وتقنيين متخصصين بالبترول، والنظر للمصلحة الإقتصادية المرتبطة بالبترول.
ولفتت حريز إلى أنه “من المفترض أن يحصل هذا الاتفاق بأسرع وقت ممكن، إنما أستبعد البتّ بموضوع ترسيم الحدود البحرية لأنه متشعّب جيوسياسيًا وليس فقط تقنيًا، في ظل النزاع بين قبرص اليونانية وقبرص التركية، ما يتطلب توافقًا بين قبرص وتركيا واليونان. لكن إلى ذلك الحين من الممكن وضع الإطار العام بين لبنان وسوريا وتحديد نقطة الحدود بينهما، ليصار لاحقًا الى الإتفاق مع قبرص. وهذا يسهّل استقدام الشركات للاستثمار في بلوكات الغاز لدى الجانبين اللبناني والسوري، علمًا أن لبنان يسبق سوريا في هذا المجال وأجرى المسوحات الزلزالية اللازمو، وطرح البلوكين 1 و2 ضمن عروض الاستكشاف والتنقيب”.
“مشقّة الأخوة”
هي أزمة ممتدة بعمر البلدين، تختصر الكثير من فصول العلاقات المتوترة بينهما على مختلف الأصعدة. وقد وصفها الكاتب اللبناني جوزيف أبو خليل في كتابه عن العلاقة بين الدولتين بأنها “مشقّة الأخوة”، وهو ربما خير تعبير عن التوتر الدائم والقلق المتبادل بينهما. فبينما تخشى دمشق دائمًا من خاصرتها الرخوة في لبنان، يكبر الخوف في بيروت من الذوبان في الدور السوري الأكبر.