السلام للهواة والحرب للمحترفين
بقلم المهندس إيهاب مهنا “عضو المجلس المذهبي الدرزي”
في الشرق الأوسط، يبدو السلام كأمنية رقيقة يتداولها السياسيون الهواة على المنابر، فيما الحقيقة أن القرارات الكبرى تُصنع في غرف مغلقة، حيث لا تُوزن الكلمات بل تُوزن موازين القوة. الحرب في هذه المنطقة لم تكن يومًا خيارًا عاطفيًا، بل صناعة للمحترفين، أدواتها الدم والنار، وغايتها رسم خرائط جديدة تتجاوز ما كتبته المعاهدات القديمة.
اليوم، يتقدم المشهد الإيراني ليكون مركز هذا الصراع. فبحسب تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إيران راكمت أكثر من أربعمائة كيلوغرام من اليورانيوم المخصب بنسبة ستين بالمئة، وهي نسبة تقنياً لا تُستخدم إلا كجسر نحو التخصيب العسكري بنسبة تسعين بالمئة، حيث يصبح اليورانيوم صالحًا لصناعة السلاح النووي. خبراء الطاقة الذرية يجزمون بأن هذه الكمية تكفي لإنتاج عدة قنابل نووية إذا ما اكتمل تخصيبها، وهو احتمال لا يمكن أن تقبله إسرائيل ولا الغرب بأي حال. الأخطر من ذلك أن جزءاً من هذه الكميات لم يعد خاضعًا لبرامج التفتيش الدولية بعد الضربات التي طالت منشآت فوردو ونطنز في يونيو الماضي، الأمر الذي جعل مسألة الحرب المباشرة ضد إيران مسألة وقت لا أكثر.
لكن القراءة المتأنية للمشهد تكشف أن الهدف المحتمل لأي ضربة عسكرية ليس مجرد تعطيل منشآت نووية، بل ضرب النظام الإيراني نفسه في عمقه. فخلال الحملة الجوية الإسرائيلية الأخيرة، لم تُستهدف فقط المواقع النووية أو العسكرية عالية الحساسية، بل وُجّهت مئات الغارات إلى مناطق مثل كوزستان وماهاباد وتبريز وكرمنشاه، وهي ليست مواقع عسكرية خطيرة على إسرائيل، بقدر ما هي خطوط تصدع عرقي يسهل أن تتفجر منها الاضطرابات. وفي التاسع عشر من تموز ٢٠٢٥، أصدرت منظمات كردية انفصالية في شمال غرب إيران بيانًا علنيًا يدعو الأكراد لحمل السلاح ضد الحكم المركزي، في توقيت يصعب فصله عن تلك الضربات الجوية. بل إن بعض الضربات استهدفت مراكز للحرس الثوري والمخابرات المحلية في تلك المناطق، وهي مرافق لا تشكل تهديدًا مباشرًا لتل أبيب بقدر ما تمثل ركائز أساسية لسيطرة النظام على المحافظات الواقعة على اطراف الحدود الإيرانية. .
هذه الاستراتيجية تستند إلى حقيقة جغرافية وديموغرافية عميقة: إيران ليست كتلة قومية متماسكة كما تحاول أن تبدو. فالفرس يشكلون قرابة ستين بالمئة من السكان، أما البقية فموزعون بين أكراد وأذريين وعرب وبلوش وأقليات أخرى، تعيش على أطراف البلاد بمحاذاة حدود ترتبط معها بروابط عرقية مباشرة؛ فالأكراد مع كردستان العراق وتركيا، والأذريون مع أذربيجان، والعرب مع العراق والخليج، والبلوش مع باكستان وأفغانستان. هذه الجغرافيا جعلت السيطرة المركزية من طهران تحديًا دائمًا، وقد شهد التاريخ المعاصر لحظات انفجار واضحة، أبرزها ما حدث بعيد ثورة 1979 حين انتفضت بعض تلك الأقليات مطالبة بالاستقلال أو الحكم الذاتي، فقُمعت بوحشية وأُغرقت في الدماء.
من هنا، يصبح المشهد الراهن قابلاً للقراءة على أنه تكرار لسيناريوهات كبرى شهدها العالم، أقربها انهيار يوغوسلافيا في التسعينيات. كما تفتت ذلك البلد على أساس قومي وطائفي تحت وطأة تدخلات وضغوط عسكرية وسياسية، قد يشهد الهلال الخصيب إعادة تشكيل مشابهة: تقسيم إيران إلى كيانات قومية متنازعة، يتبعها تقسيم أو إعادة هيكلة في العراق وسوريا، حيث التفكك قائم أصلاً.
الولايات المتحدة وأوروبا قد لا تصرحان بهذه الأهداف بوضوح، لكن إسرائيل ترى أن الضربة الاستباقية باتت ضرورة وجودية. فالسماح لإيران بالاحتفاظ بقدرة نووية “كامنة” يعادل التسليم بموازين ردع جديدة تقلب المعادلة كلها. أما روسيا والصين، فيقابلان هذا السيناريو برفض قاطع، إذ أن تفكيك إيران لا يعني مجرد خسارة حليف، بل خسارة موقع جيوسياسي استراتيجي في قلب آسيا والشرق الأوسط..
هكذا يتضح أن الحرب ليست فقط خيارًا مطروحًا، بل أداة مدروسة في لعبة الأمم. فالسلام في هذه المنطقة خطاب للاستهلاك السياسي، يصلح للهواة والمستضعفين الذين يتمنون الهدوء. أما المحترفون في الجغرافيا السياسية، فإنهم يرون أن الخرائط لا تُكتب بالحبر على طاولات التفاوض، بل تُرسم بالدم والنار على الأرض. وما يُنتظر الآن ليس السؤال: هل ستقع الحرب؟ بل متى سيحين وقتها، وأي حدود جديدة ستنبت من رمادها.












