باسيل الساحر المبتدئ الذي لا يقنع أحداً إلا السذج.
هناك، في الصالون الباهت لمقر “حركة اليسار الديموقراطي”، ذات يوم من أواخر عام 2005، انتقى الشاب جبران باسيل المقعد الأقرب إلى باب الخروج. جلس صامتاً وراح يرمق الجميع بريبة، من غير إخفاء تعبير الازدراء.
وفيما كنت أنظر إليه، أيقنت خطورته وموهبته المخيفة. وجه طفولي ناعم مغمّس بالضغينة.
يحفظ باسيل تحت جلده، نهماً لا محدوداً للسلطة، كما لو أنه واحد من النسخ البونابرتية التي تخلب ألباب طلاب المدارس. تضنيه محاولاته لاكتساب سمات الزعماء الموارنة الأكثر تطرفاً وبروزاً: عناد كميل شمعون، جموح بشير الجميّل، شراسة إيلي حبيقة، تعصب بيار الجميّل، شعبوية ميشال عون. لكن نقيصته الفاضحة أنه يؤدّيها ويتمثّلها بجرعة زائدة من الأنانية وبقدر أقل من الإيمان.
يتلذذ هذا الشخص بإلقاء القنابل، أن يجفلنا كل يوم تقريباً، أن يظل هكذا حاضراً بوصفه “ظاهرة” أو “عجيبة” (بالمعنى الديني)، وإن كان دوماً أقرب إلى صورة الساحر المبتدئ الذي لا يقنع أحداً إلا السذج. لكن الأمر هنا ليس مزاحاً ولا تسلية. المفزع، أن هذا الساحر الصغير يلاعب ثعابين الطائفية السامة، يدعي أنه يجدد زمن المعجزات. والبحث عن المعجزة أو عن صانعها، كما تقول لنا أخبار الجماعات وتواريخها، لا يكون إلا في زمن القحط والانحطاط. وأن المعجزة هذه غالباً ما تكون خديعة قاتلة.
بهذا المعنى، تسكنه واحدة من أعقد إشكاليات الإيمان: الهوس الديني الذي يضيع بين القداسة والهرطقة، بين الناسك والمشعوذ. مشهده راكباً الأتان في واحدة من استعراضاته “الشعبوية”، متمثلاً مشهد دخول المسيح إلى أورشليم، واحدة من أفدح خزعبلاته التي تخاطب أوهام “الإحباط” لدى المسيحيين. إحباط بسيكولوجي أقرب إلى وسواس وجودي وقد تحول إلى “نعرة”.. هي لب لغة باسيل اللئيمة ونواة وعيه المرضوض بمحنة المارونية السياسية.
جبران باسيل الممقوت هنا، المحبوب هناك، هو ابن أزمة (أنا وجماعة)، قوامها تعظيم النفس واحتقار “الآخر”. ولا يخفي هنا انتشاءه بذاته، بل وإعجابه الظاهر بفطنته وذكائه. ويتحول هذا في السياسة إلى ادعاء كاريزمية لا تبالي كثيراً بتهم متكررة من نوع العنصرية الفجة أو الطائفية القحّة، طالما أن أفاعيله وتصريحاته المباغتة (ولع عميق بلفت الانتباه) تجد جمهوراً حولها. جمهور يعرفه باسيل تماماً. أعراضه وجروحه النرجسية ومخاوفه. جمهور كان هو واحداً منه في أواخر الثمانينات، الزاحف لتلبية نداء “الجنرال” المخلص، قائد النقمة والغضب والوعد في آن معاً.
هناك شخصان يتقمصان جبران باسيل. الأول، ذاك المهندس الطموح، المعماري الذي ينحاز إلى حنين الأصالة، وإلى الاحتفاء برفاهية “البيت اللبناني” برحابته الحجرية. دأبه ترميم وإحياء إرث جمالي برهافة وذوق. هذا المهندس، هو أيضاً شخص آخر، راسبوتيني السيرة والملمح والسريرة والدور. يتحول من طفل يحلم أن يصير بطريركاً – كما تردد والدته – إلى شاب ينجح في الدخول إلى عقل القائد وقلب ابنته (ورع مضمخ بحب السلطة). فينيط بنفسه مهمة تحويل ظاهرة عون وأتباعه إلى “طائفة” سياسية لا تكف عن دعاوى “الحقوق” والمظلومية.
والحال، أن العونية بصيغتها الباسيلية، يضنيها منذ العام 2005، ذاك الفراغ العميق في دعواها الأصلية، التي قامت على طرد “المحتل السوري”، فلم تفلح بطرد جندي واحد، وإذ بما كانت تسميه عميلاً (رفيق الحريري) يغذي دمه انتفاضة استقلال جمعت ما مزقه ميشال عون أصلاً (خصوصاً المسيحيين).
من هذا الفراغ بالذات ولدت ضغينة جبران باسيل، التي توسلت الإنقلاب على تاريخها، واستلحقت نفسها بعدو الأمس، بلا تمهيد ولا مقدمة. ومع طور الانقلاب هذا، أرسى باسيل وجماعته هذياناً سياسياً تفشى كالعدوى حتى بات هو كل السياسة اللبنانية على معناها الفاسد كما على حقيقة عجزها وانحرافاتها.
فلا حساب لباسيل على تبعات كلامه، ولا حتى على ما يسكت عنه. فيكون لاعب أدوار ومبدل أقنعة، ينقض ويتبرأ مما قاله واقترفه من غير أن يرف له جفن ولا وخزة ضمير. كأنه يرى الحياة السياسية كلها ووظائفها مسرحاً للارتجال، لانتحال أدوار ولافتعال المبالغة.. في تسلية باهظة، أقلها مصير بلد وجماعات، كما شهدنا مراراً في فيديوات القدح والذمّ المسربة، أو حين لا يتردد بوصم طائفة بأسرها بالخيانة أو العمالة.
وراسبوتيننا اللبناني تعذبه كثرة السياسيين، كثرة الأهواء والأحزاب والشيع والقادة.. على ظن دفين أن لا لزوم لهم، طالما أنه على قيد الوجود. هو النائب الأول، هو الوزير الأول، هو رئيس الحكومة “الفعلي”، هو رئيس الجمهورية “حتماً”. هو “المخلّص” لما تسميه الرطانة العونية “شعب لبنان العظيم”، الذي في نهاية المطاف، ليس لبنانيي اليوم، بل هو الشعب الذي اجتمع ذات يأس حول أنقاض قصر الحروب الخاسرة، هناك حيث احترقت أفئدتهم كمداً على “الجمهورية الأولى” المغدورة عام 1975 من غير رجعة، إلا – حسب التقليد الهوليودي – كـ”زومبي” مريع.
وأشد ما يعذب باسيل ورهط كبير من محبيه، إنكار طابع “الملحمة” عن سيرة العونية، بل وإنكار ما يظنونه فرادة وصدارة وتفوقاً، في الاجتماع والاقتصاد والثقافة والسياسة، وفق نعرة قديمة ما زالت تسوسهم كراهيةً وازدراءً للجماعات والطوائف الأخرى.
في باسيل يصح التمعن بما يقصده من كلمة “فساد” التي رددها مليون مرة، حتى فسدت العبارة لشدة انتهاكها. وعلى هذا المثال، ارتسمت سياسة لبنانية لا شيء فيها سوى سطوع نجمه فوق فراغها.
يوسف بزي/المدن