محاصرة جنبلاط تشتد… والقوات وبري في مأزق
أن يزور وزير شؤون اللاجئين، صالح الغريب، قصر بعبدا، ويلتقي رئيس الجمهورية ميشال عون، بعد عودته من دمشق.. يعني أن الغريب يوفّر مظلّة سياسية رسمية ورئاسية لزيارته وتحرّكه.
يقول الغريب من بعبدا إنه وضع رئيس الجمهوية ميشال
عون “بأجواء زيارته إلى سوريا”، داعياً الجميع إلى “إخراج ملف النازحين من
التجاذبات السياسية”. كلام الغريب وموافقة رئاسة الجمهورية على زيارته، من
شأنه أن يحرج رئيس الحكومة سعد الحريري، الذي عبّرت مصادره عن عدم علمه أو
موافقته على تلك الزيارة، ووضعها في إطار الزيارة الشخصية، لأنها لم تحصل
بتكليف من الحكومة. وهذه الواقعة كلها لا تنفصل عن موقفين أطلقهما وزير
الدفاع الياس بو صعب، الأول حول تركيا، والثاني حول العلاقات الممتازة مع
النظام والتنسيق القائم والمستمر.
خطة الحصار
لا شك أن
هناك نوع من اللامسؤولية في التعاطي مع هكذا خطوات. وآلية التعاطي تشير إلى
إمكانية تكرار هذه الزيارات، وإن اكتسبت “الصفة الشخصية”. والعبارة
الأخيرة، مجرد مصطلح زائف، لتبرير هذه الزيارات، والهروب من مواجة حقيقتها
السياسية. وأن يدخل قصر بعبدا على الخطّ، يعني أن هذه الزيارات لن تتوقف
وستتكرر، كما سيجريها وزراء آخرون، على رأسهم وزير الخارجية جبران باسيل.
النقاش السياسي اللبناني، لم يعد قادراً على التأثير والتغيير في هذا
المسار، وأي اختلاف سياسي حول جوهر هذه الزيارة، لن يكون أكثر من خلاف
إعلامي وكلامي.
لكن أيضاً، ووفق المنطق نفسه، فإن هذه الزيارات محصورة بأهداف
ضيقة، وحسابات تفصيلية محددة، تتعلق بكل من يريد زيارة سوريا ولقاء
مسؤولين في النظام. زيارة الغريب، تهدف إلى “التنقير” على قوى سياسية أخرى،
على رأسها الحزب التقدّمي الإشتراكي. وهذه المساعي ستبقى مستمرّة في
المرحلة المقبلة، وليست وليدة ساعتها أو لحظتها. إنها دليل على مسار قد بدأ
منذ ما بعد الانتخابات النيابية، والمساعي لإعادة تجميع القوى الدرزية
المناهضة لجنبلاط. والمفارقة، أن جنبلاط لا يجد نفسه محاصراً من النظام
السوري وحلفائه من الدروز فقط، بل هناك مقتضيات مصلحية حالية، تفرض على
أكثر من جهة أن تحاصر جنبلاط أو تعمل على تهميشه.
الاختراق
منذ
أحداث الجاهلية، إلى اللقاء بين النائب طلال ارسلان ووئام وهاب، وصولاً
إلى الصورة التي خرجت بها الحكومة، أصبح جنبلاط على يقين بأنه مستهدف، بما
يمثّل. وهنا تجتمع جملة معطيات ونقاط التقاء بين قوى متعددة على تناقضاتها،
في التوحد بمواجهة جنبلاط. حزب الله مثلاً، يسعى إلى تحقيق ثنائية درزية
على غرار ما تحقق في كل الطوائف الأخرى، بالانتخابات النيابية، فتحقق الخرق
في الساحة السنية، والخرق قائم وموجود ويتمدد في الساحة المسيحية. وبعد
الفشل في الانتخابات بتحقيق الخرق في أحادية الزعامة الدرزية، يجد الحزب
مصلحة في تطويق جنبلاط ومحاصرته، عبر تجميع القوى المناهضة له. وبذلك يكون
الحزب قد احتفظ بالسيطرة على الزعامة الشيعية، بواسطة ثنائيته مع حركة أمل.
التحالف بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحرّ، يجد مصلحة
في تطويق جنبلاط، وإن لم يكن الرئيس سعد الحريري راغباً في ذلك. لكن، ثمة
مقتضيات المصالح تفرض عليه ذلك، إنطلاقاً من العلاقة العميقة مع التيار،
الذي يسعى إلى تعزيز الوجود السياسي المسيحي في الجبل، ليصبح مؤثراً
انتخابياً، وتسجيل المزيد من الخروقات بمواجهة جنبلاط، وهذا بلا شك سيشكل
هاجساً مركزياً في عمل وزارة المهجرين، التي تولاها غسان عطاالله. هذا
بمعزل عن الكلام الإيجابي الذي جرى تبادله بين عطاالله وجنبلاط حول أفق
التعاون.
القوات وبرّي في المأزق
القوات اللبنانية، تجد
نفسها مضطّرة للوقوف إلى جانب جنبلاط، لمنع منطق الاستفراد، لانها تعلم أن
أي استفراد بجنبلاط أو بأي قوة سياسية أخرى، سينتقل إليها في مرحلة لاحقة،
لكن الموقف الذي ستكون القوات اللبنانية قادرة على اتخاذه، يبقى في الإطار
المعنوي، ولن يكون له ترجمة عملانية. أما الرئيس نبيه برّي والذي يعدّ
الحليف الوثيق لجنبلاط، فهو أيضاً يتعرّض لعملية مشابهة، وقد تكون هناك
حسابات مختلفة داخلياً وخارجياً تلتقي على ضرورة مواجهة الرجلين، والمقصود
هنا هو النظام السوري. الذي يريد الإنتقام من جنبلاط على مواقفه، وتطويق
برّي لأسباب عديدة، أبرزها عدم مشاركته بالقتال في سوريا. وهذا ما يرتكز
عليه الوزير جبران باسيل في طريقة أدائه لمواجهة الرجلين معاً.
الخيارات الصعبة
مشكلة
جنبلاط أنه يرتكز، في الدفاع عن النفس، على الحساسية الدرزية أو مبدأ
“استهداف الدروز”. وهذا يحصره داخل البيئة الدرزية فقط، التي تتعرض لهجمات
متعددة. وبالتالي، فسياسة المهادنة في موقف جنبلاط، لن تخدمه على المدى
البعيد، وإن كانت نجحت في تحقيق التهدئة حالياً. وهو يدرك أن المسار واضح،
وهناك قرار سياسي واضح بتصفيته سياسياً.. خصوصاً وأن الدوافع الداخلية (لا
السورية فقط) تقوم على هدف تكرار غلبة المسيحيين على الدروز في الجبل أيام
المتصرفية. وبعدما خفت الدور السياسي للدروز، لعقود مديدة، تم استنهاضه
وتجديده بالارتكاز على خطاب “مطلبي” وطني أطلقه كمال جنبلاط في عهد “الحركة
الوطنية”، كسر فيه يومها الحصار المفروض على الدروز، وحوّلهم إلى لاعب
أساسي، قادر على السيطرة على الأرض، وفرض التوازنات. واليوم يتعرّض جنبلاط
لما تعرّض له الدروز أيام المتصرفية.
هذه الغلبة لم تتحقق يومها، لو لم تكن هناك ظروف إقليمية ودولية قاهرة. واليوم هذه الظروف المعاكسة تتهيأ. بمعنى، إذا ما تم احتساب جنبلاط على المحور الأميركي الخليجي، فالقوى المناوئة الأخرى هي التي تتقدّم في المنطقة، من الروس إلى الإيرانيين. ولذلك، أمام جنبلاط خياران للنهوض مجدداً، إما استعادة علاقته الاستراتيجية بالغرب والقوى العربية، مع تغيير في فحوى الخطاب خارجياً وداخلياً، بما يلامس ويتبنى هواجس بيئة واسعة من اللبنانيين، خارج الحيز الدرزي، في تكرار للدور (الوطني واليساري الأممي والقومي العروبي) الذي لعبه البيت الجنبلاطي منذ أحداث عام 1958 وحتى ربيع 2005. أما الخيار الآخر، فهو أن يدبّر جنبلاط أو نجله تيمور، انقلاباً على كل الثوابت، والذهاب إلى خيار تعميق العلاقة مع موسكو، وتجديدها، بالإضافة إلى إيجاد صيغة تفاهم مع إيران، من أجل الصمود ومواجهة الحصار وخطر الإلغاء، خصوصاً أن الإيراني والروسي يدخلان بقوة إلى لبنان، بعدما تعززت هيمنتهما على سوريا. وهذا كله، واقع تاريخي لا يمكن الخروج منه، إلا بتغيّر معطيات دولية كبرى، غير متوفرة اليوم.
منير الربيع/ المدن