شبيحة البعث في الأشرفية… وعون” الربيع العربي جهنم”
يغلّف التناقض الأخلاقي والفصام الفكري، المنظومة السياسة اللبنانية. يدّعي لبنان دوره الريادي في الحريات والدفاع عنها، لكنه يصطف إلى جانب الديكتاتوريات والنظم العسكريتارية. هذا السلوك السياسي اللبناني يغلّب مبدأ الاستقرار وحماية ما هو قائم، على حساب إرادة الشعوب أو أي حراك احتجاجي أو تغييري. يتغنى سياسيو لبنان بالديموقراطية لكنهم يستكثرونها على الشعوب المجاورة. المنطق اللبناني هذا لا يبعد عن خطاب الطغاة والمستبدين، المشهود لهم بما فعلوه بالربيع العربي، من افتعال حروب دموية وثورات مضادة، ومن تغذية متعمدة لظواهر التطرف والإرهاب.
استهلاك المعاني
يتجلى
الفصام اللبناني اليوم في كلام رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي كان ذات
يوم ثائراً على الأمر الواقع، وخصوصاً على جيش النظام السوري منذ أواخر
ثمانينات القرن الماضي وحتى منتصف العشرية الأولى. قال هناك في تونس، مهد
الربيع العربي، أن هذا الربيع هو جهنم. ولسنا ندري إن كان سيصف الآن “حرب
التحرير” أنها كانت “جهنم”، طالما أنها أيضاً طالبت بالحرية والديموقراطية
وأدت إلى عنف وسفك دماء وفوضى. ولسنا ندري أيضاً ما رأيه بالانتفاضة التي
حدثت عام 2005، طالما أنها أطاحت بـ”الاستقرار” الذي كان يوفره نظام
الوصاية السوري.
في سنوات منفاه ادّعى عون نضالاً لتحقيق الحرية والتحرر. كان
يومها منفياً أو لاجئاً سياسياً كما حال عشرات الألوف من السوريين في فرنسا
راهناً. نجح في تحقيق ما يريد، والعودة إلى ترؤس السلطة، التي لطالما
رفضها من خلال رفضه لاتفاق الطائف، وأضحى اليوم المؤتمن عليه. ليس هذا
الفصام تفصيلاً أو أمراً بسيطاً، إنه نتاج منظومة فكرية قادرة على استهلاك
المعاني بالممارسة السياسية. يجد عون في مواقفه الإشكالية منذ سنوات إلى
اليوم ما يبرّرها، فمثلاً يعتبر أن مجرد تحقيق عودته وانسحاب الجيش السوري
كافيان لتطبيع علاقاته مع النظام السوري إلى حد التحالف والتناغم. وفي
الأثناء يتناسى عمداً أفظع النشاطات التي استمر النظام السوري بها داخل
لبنان، فقط لأنها لا تتلاءم مع مصلحته السياسية، ليس فيما يخص ملف
المعتقلين والمفقودين في سجون النظام السوري، بل أيضاً في كل أعمال
التفجيرات الإرهابية والاغتيالات السياسية والعمليات الأمنية، التي استهدفت
شخصيات سياسية في المرحلة ذاتها التي فتحت الباب أمام عودة عون إلى لبنان.
وتناسى “فخامة الرئيس” ما حدث قبل سنوات قليلة وأشهر، مع مخطط سماحة –
مملوك، وتفجيرات مسجديّ السلام والتقوى في طرابلس.
في حب فرنسا
يصف
عون الربيع العربي بأنه “الجهنم العربي”. وهذا صحيح إذا كان القصد هو
النظر إلى المآسي التي أصابت الشعوب. لكنه يتحول هكذا وصف في لغة عون
ومقاصده إلى إلقاء اللوم على الثورات نفسها، لا على الذين واجهوها بالحديد
والنار.
الأغرب أن مقابلته مع التلفزيون التونسي، حيث كان فيها أفضل نماذج ذاك الربيع “الجهنمي”، إذ لم يحل فيها الدمار والتهجير والقتل. ولا ندري إن شعر مواطنو محمد بوعزيزي بالإهانة لحظة أن قال رئيسنا اللبناني كلامه المناوئ للثورات.
في المقابلة ذاتها، يعلن عون انسجامه مع فرنسا وعلاقته
الشخصية وعلاقة لبنان الثقافية والعميقة معها، متناسياً أن الثورة الفرنسية
التي ولّدت الجمهورية في فرنسا، لم تكن إلا جهنماً وجحيماً من توالي
الانتفاضات الدموية، على نحو يجوز تشبيهها بما يحدث في بلادنا العربية في
الوقائع وفي الشعارات، والثورة الفرنسية يا فخامة الرئيس استمرت طيلة مئة
عام، زلزلت أوروبا كلها، حتى وصلت إلى صوغ وجه فرنسا الجديد الذي “تحبه”،
فرنسا هذه هي نتاج “جهنم” الثورة الفرنسية سنة 1789.
حلف الأقليات
وصف
الربيع العربي بأنه جهنّم، لا يمثّل إجحافاً فقط، وازدراء لإرادات الشعوب
وطموحات شبابها وشاباتها، بل هو قراءة سلطوية عربية لا تنسجم بتاتاً مع
التقاليد اللبنانية التي تعلي مبدأ الحرية فوق أي مبدأ آخر، وتضع حق الشعوب
بتقرير مصيرها كأساس أخلاقي في السياسة.
ونتأسف أن الصحافي الذي أجرى
المقابلة، لم يسأل الرئيس عن أحوال تلك الشعوب قبل الثورات: هل كانت تعيش
في النعيم وانقلبت حياتها جحيماً؟
على كل حال موقف عون المناهض للربيع العربي، لم يبرز إلا بعد أن اندلعت الثورة في سوريا. فقبل الثورة السورية كان “المحور” الذي ينتمي إليه عون، يهلل للربيع العربي، ويصفه بأنه ربيع الشعوب على الأنظمة المتواطئة والمرتبطة بالغرب، خصوصاً بأميركا وإسرائيل. لكن عندما حطّ الربيع في سوريا، أصبح “مؤامرة إسرائيلية وأميركية”. وإذا كانت “مؤامرة” بالنسبة إلى إيران وحزب الله، فبالنسبة إلى عون هي “جهنّم” من منطق ديمغرافي وطائفي، وفق منطق “تحالف الأقليات”، الذي لا يتوانى هو وفريقه عن الحديث عن أهميته. وهو تحالف لا هدف له سوى كبح وكبت وقمع.. وسحق الأكثرية التي تقطن “المشرق العربي” تحديداً.
ليس صدفة أن يأتي كلام عون عن “الجهنم العربي” بعد موقف أطلقه خلال زيارته إلى موسكو، يعلن فيه أن روسيا هي “حامية الأقليات” (وللتذكير: “الأسد هو حامي الأقليات في سوريا”!). وقبله بسنة، دعا رئيس التيار الوطني الحرّ الذي أسسه عون، ويترأسه صهره الوزير جبران باسيل، إلى “التحالف المشرقي”. وليس التحالف المشرقي إلا إحدى العبارات المنمقّة لمنطق تحالف الأقليات، خصوصاً أن تصريح باسيل من موسكو يومها، استتبع بموقف آخر حيال إسرائيل بأن ليس لديه خلاف أيديولوجي معها. وفي موقف آخر، قال بأنه يريد السلام معها، لأن لديها الحق في أن تعيش آمنة، ولكنه مع مقاومتها إذا ما اعتدت على لبنان. هنا بيت القصيد ومربط الفرس.
وهذا هو الأساس التكاملي لنظرية حلف الأقليات، التي لطالما
التقى عليها النظام السوري مع الإسرائيليين في سبعينيات وثمانينيات القرن
الفائت. وهذا لا ينفصل عن التمزيق الجغرافي والديمغرافي الذي شهدته سوريا
في سنوات الإنقضاض على الثورة وضربها. فلم يعد الهدف إجهاض الحراك الشعبي،
بقدر ما أصبح يهدف لإنتاج سوريا جديدة، “سوريا المفيدة”، والتي تم افراغها
من شعبها وإجراء إعادة فرز مذهبي على جغرافيتها، ما لا ينفصل أيضاً عن موقف
رئيس النظام السوري بشار الأسد حول التجانس الإجتماعي والسياسي بين مكونات
المجتمع السوري، ولا ينفصل عن منطق الرهاب اللبناني ولا سيما العوني من
اللاجئين السوريين. إذ يعتبر عون وخلفه باسيل أن وجود اللاجئين يهدد لبنان
كيانياً وديمغرافياً. كما أن ذلك لا ينفصل عن مبدأ رفض باسيل لمنح المرأة
اللبنانية جنسيتها لزوجها وأبنائها إلا إذا كانوا غير عرب.
“البعث” في الأشرفية
وعون
ليس بعيداً عن باسيل، إذ يؤكد في المقابلة ذاتها، أنه من دعاة السلام.
وبالتأكيد السلام يكون مع العدو، فيما ينتقل بفكرة أخرى إلى السؤال عن
سوريا معتبراً: “كانت توصف بأنها قلب العرب النابض، فماذا فعلنا بهذا
القلب؟”، مشيرا إلى أن في سوريا نظام حكم وشعب، “فإذا كنت ضد النظام، لا
يمكنك قتل الشعب”، معتبرا ان الشعب السوري هو الضحية. وهنا يبقى السؤال من
ضد النظام ومن يقتل الشعب؟ أو من يهجره ولا يريد إعادته إلى أراضيه؟ صيغة
الجملة توحي أن من هو ضد النظام قتل الشعب! وعلاوة عن تبرئة النظام من قتل
الشعب، توحي العبارة -عملياً- أن الشعب السوري هو الذي قتل الشعب السوري!!
هذا هو منطق عون، الذي عرفناه أصلاً بعد “تفاهم مار مخايل” حين صار
المقتولون اغتيالاً في لبنان مذنبون كونهم قتلوا أنفسهم تقريباً.
وللمفارقة أنه في اللحظة التي كان يسأل فيها عون عن سوريا، كان الردّ عليه يأتي في شوارع بيروت، بمسيرات سيارة وحافلات نقل محتفلة بذكرى تأسيس حزب البعث، وتجول في مناطق مختلفة من العاصمة بيروت رافعة صور بشار الأسد. والمفارقة الأكبر أن تلك المسيرات وصلت إلى الأشرفية، في مشهد إستفزازي لأهالي المنطقة. وفي مشهد يتقصّد القيمون عليه الردّ على منظومة سياسية لطالما كان عون تاريخياً جزءاً منها. ربما هذه الصورة هي أبلغ ردّ على مواقف مريدي النظام والساعين إلى تطبيع العلاقات معه. فلماذا لا يخرج هؤلاء مطالبين بإعادة المؤيدين للأسد إلى سوريا، الذين لا يتركون مناسبة إلأ ويخرجون فيها مستفزين، قبل معارضيه. مشهد الأمس يشبه إلى حد بعيد مشهد الانتخابات في السفارة السورية. ربما تشجع هؤلاء في عراضاتهم ببيروت من وحي كلام الرئيس عون الذي بدا شبيهاً ببعض ما يقوله الأسد أيضاً عن “الربيع العربي”.
والمفارقة الأخطر في توقيت الكلام، وخصوصاً السؤال عن سوريا وضرورة إعادتها، يأتي في لحظة اضمحلال أي دور للدولة السورية، بينما هي خاضعة لوصاية دولية كاملة ومتضاربة من قوى مختلفة، وأبرز التجليات على إنهيار مفهوم الدولة في سوريا، هو عملية تسليم رفات الجندي الإسرائيلي من قبل روسيا قبل أيام، وبعد فترة وجيزة على الاعتراف الأميركي بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، من دون ظهور أي بديل واضح لصالح النظام، إلا إذا كان البديل هو ضمانة إسرائيلية لبقائه. وهذا يضع المسألة أمام احتمالين، إما النظام مهمش ولا فعالية له، أو أنه متآمر مع الإسرائيليين وقضية تسليم الرفات، سيكون لها ما يشبهها في مراحل لاحقة، مادياً وسياسياً.
كان ينقص في المقابلة أن يعلن عون عن حسرته على بوتفليقة وقلقه على عمر البشير.. وأسفه على مصير القذافي وعلي عبدالله صالح. ولما لا، حنينه إلى حافظ الأسد وصدام حسين. من يدري؟
المدن