عون في بيت الدين: الجنبلاطيون “يرممون” العهد
عند مدخل قصر بيت الدين، المقرّ الصيفي لرئاسة الجمهورية، لوحة نحت عليها عبارة “قام بترميم هذا القصر الأستاذ وليد جنبلاط سنة 1990”. تتضمّن اللوحة إذاً “حضوراً” جنبلاطياً محفوراً في تاريخ المكان. وتأتي تغريدة وليد جنبلاط المرحّبة بزيارة الرئيس ميشال عون إلى الشوف وقصر بيت الدين، أشبه بترحيب صاحب الدار. إذ كتب: “وفوق كل اعتبار، الجبل يرحب برئيس البلاد في بيت الدين”. ما عناه جنبلاط، يشبه ما تقوله اللوحة: أن الجنبلاطيين يريدون للرؤساء أن يكونوا على تفاهم ووئام معهم. وهذا “الودّ” لطالما أظهرته المختارة تجاه رؤساء الجمهورية المتعاقبين، في بداية عهودهم، ثم كانت الآية تنقلب فيما بعد. إذ يعتبر الرؤساء الموارنة أن الجنبلاطيين يريدونهم ضعفاء، بينما يرى الجنبلاطيون أن غاية الرؤساء تتمثل في تحجيمهم وإضعافهم.
هذه العلاقة المتبادلة من الريبة والحذر، لها جذور تاريخية قوامها مبدأ “الجبل لا يتسع لبشيرين”، في إشارة إلى الانقسام الدرزي الماروني أيام بشير الشهابي وبشير جنبلاط. ومنذ ذاك الصدام يعتبر الدروز والجنبلاطيون أنفسهم مستهدفين، ويتعرضون للطعنات والمؤامرات بغية إنهاء دورهم أو تأثيرهم في الجبل. ولا تزال هذه المأثرة القديمة تتحكم بالكثير من المصائر اللبنانية، في التسويات وفي الحروب.
افتتح الرئيس بشارة
الخوري قصر بيت الدين كمقر صيفي لرئاسة الجمهورية، لكنه في أعقاب الخلاف
العميق مع المختارة والمعارضة التي خاضها كمال جنبلاط ضد عهده، فضّل
الانتقال إلى عاليه بدلاً من الشوف لقضاء الصيف. فكانت ثورة العام 1952
البيضاء، والتي تجلّت بعصيان مدني أدى إلى إسقاطه وهو مقيم في عاليه، التي
كانت مدينة متنوعة سياسياً، ولم تكن كالشوف المنحاز بالكامل لصالح
الجنبلاطيين والمختارة.
داليا جنبلاط
بين بيت الدين
والمختارة حكايا كثيرة من الصراعات والمكائد، تخفت حيناً وتتصاعد أحياناً،
منذ البشيرين إلى عهد كميل شمعون وانفضاض ثنائية كمال وكميل، ثم الصدام بين
بشير الجميل ووليد جنبلاط.. إلى إميل لحود، وصولاً إلى عهد الرئيس ميشال
عون. استبق انتقال عون إلى المقر الصيفي، بالمصالحة التي عقدت في بعبدا،
وحدّت من التوتر بين العهد وجنبلاط. واستبق عون انتقاله باتصال أجراه
بجنبلاط للمعايدة في مناسبة عيد الأضحى و”التشاور في آخر التطورات”. فخطى
جنبلاط خطوة ترحيبية بعون، مرسلاً وفداً يمثله حزبياً ووزارياً ونيابياً
وشعبياً إلى القصر للترحيب بعون، واللافت كان إصرار جنبلاط على إيفاد إبنته
داليا على رأس الوفد، نظراً لوجوده ونجله تيمور خارج لبنان. حضور إبنة
وليد جنبلاط لا يخلو من مغزى في هكذا مناسبة، خصوصاً في الجبل. ففي هكذا
محطات من الضروري أن يكون شخص من آل جنبلاط موجوداً.
تمثّل الزيارة خطوة إيجابية من قبل جنبلاط الراغب في مدّ يده إلى عون مجدداً، وتسهيل العهد والتعاون، لكنه لا يتراجع عن مبدأ أساسي: أن للتنازلات حدود، ولا يمكن القبول بأي محاولة لإلغائه أو الإلتفاف عليه. فهو ما أن يتجاوز الحملات وينجو منها، حتى يعود ليبادر إيجاباً. وفي هذه الخانة يمكن إدراج تلك الزيارة، التي ستليها زيارة لجنبلاط ونجله إلى بيت الدين، وتوجيه دعوة لعون لزيارة المختارة على ما يقول الاشتراكيون. النفحة التعاونية التي أبداها جنبلاط، قابلها عون في موقفه أمام الوفد مشدداً على المصالحة واندمال الجروح وضرورة تضافر الجهود.
وليست هذه
“المجاملات” بعيدة عن يوم قرار وليد جنبلاط السير بالتسوية الرئاسية، حينها
زاره عون وشكره على موقفه المؤيد لانتخابه. كان يظن زعيم المختارة أن
البادرة ستقابل بمثلها، لكن لم يغرب عن باله احتمال وقوع إنقلاب عليه. فتلك
معاناة شهيرة للجنبلاطيين مع مختلف حلفائهم الموارنة، الذين يصلون إلى
رئاسة الجمهورية، من كميل شمعون إلى فؤاد شهاب وشارل حلو وسليمان فرنجية.
التعبير عن المكبوت
تاريخياً،
قامت اللعبة السياسية في جبل لبنان على ثنائية درزية مارونية، ومنذ القرن
الثامن عشر تركزت الثنائية بين الجنبلاطيين والشهابيين. هي لعبة تقليدية
قديمة جداً، شائكة ومعقدة، لا يستطيع فهمها إلا من يشارك فيها. وتلك الحروب
كانت انعكاساً لصراعات دولية. بقيت في حقبة لبنان الكبير وحقبة الاستقلال
ولا تزال إلى هذا اليوم.
لطالما شكّلت الزعامة الجنبلاطية حساسية المسلمين جميعاً تجاه المشروع الماروني، سواء ببعض العبارات التقليدية في حقبة غابرة، عند اعتبار المسلمين أن الموارنة هم مقدمة لمشروع غربي. وهذه ما تعنيه حقيقة التجاذبات الإقليمية والدولية. فكان الصراع بين البشيرين انعكاس لصراع إقليمي ودولي، وامتد إلى أول عهد استقلالي بين كمال جنبلاط وبشارة الخوري. وتجدد بعدها خلال التحالف بين جنبلاط وشمعون والذي أوصل الثاني إلى رئاسة الجمهورية. فأولى بوادر الخلاف بين الرجلين كانت أيضاً على مقربة من بيت الدين، في خلوة بينهما مع قائد الجيش آنذاك فؤاد شهاب. حينها كتب جنبلاط بنوداً على ورقة وسلّمها إلى شمعون لتوقيعها، على أن تبقى بعهدة ورعاية فؤاد شهاب كضمانة لتنفيذها. لكن شهاب رفض ذلك، في إشارة منه إلى أن شمعون لن يلتزم بها. فكانت ثورة 1958، على وقع تقاطعات إقليمية ودولية أوصلت شهاب إلى رئاسة الجمهورية بتحالفه مع الجنبلاطيين وما يمثله من تقاطع مع عبد الناصر. لكن، على الرغم من هذا التحالف، وقع الخلاف فيما بعد. وهناك نكتة شهيرة مروية عن فؤاد شهاب ولقاءاته مع كمال جنبلاط، إذ كان يقول إن الزعيم الإشتراكي كان يبدأ في جلساته معه بتطورات العالم والحرب الباردة، فيسأله شهاب “ما المطلوب” فيقدم كمال جنبلاط بعض المطالب لهذه القرية أو تلك، أو لهذا الموظف أو ذاك.
يستمد آل جنبلاط
قوتهم في مواجهة السلطة أو الخصم، انطلاقاً من تعبيرهم عن حساسيات ومكبوتات
لدى قوى متعددة، قد لا تجهر بما تعانيه أو تقاسيه، كأن يتبنى كمال جنبلاط
الدعوى اليسارية أو يرفع لواء القومية العربية، فيعبّر عن أطياف واسعة من
اللبنانيين. هكذا يأتي الموقف الجنبلاطي تعبيراً عن مكبوتاتهم، ضد
“العهود”. وقد تجلّى بعد الحرب أيضاً، إذ كان أول من تصدى لإميل لحود هو
وليد جنبلاط، منتقداً العسكر وعسكرة السياسة والأمن والمجتمع. انتقاده عبّر
عن ما يكبته الآخرون، وخصوصاً السنّة مثلاً في تلك الفترة، بل والمجتمع
المدني عموماً والأنتليجنسيا، والتي انفجرت غضبتهم بعد اغتيال رفيق
الحريري. فلعب جنبلاط الدور الأبرز في قيادة “الانتفاضة”.
المصالحة والطائف
ما
حدث في قبرشمون عكس حساسية المسلمين تجاه عون وخطاب باسيل. فكان الاعتراض
الجنبلاطي على هذه سلوكيات باسيل أوسع من محليتها ومن درزيتها. فجزء كبير
من اللبنانيين اعتبروا خطب ومبادرات باسيل استفزازية. بذلك أيضاً غير
جنبلاط بعضاً من قواعد اللعبة. فكانت مقاطعة باسيل في طرابلس بالغة
الدلالة.
أعيد تجديد المصالحة، لتفتح باباً جديداً من العلاقات، تجلّت بالإيجابية في مشهد بيت الدين. والتي استبقها جنبلاط أيضاً بالقول إنه لا داعي للسجال والتحدي، موجهاً التحية للشهداء الذين صنعوا اتفاق الطائف. هذا الموقف تضمن إشارة جنبلاطية لافتة حول التمسك بالطائف، ورفض المس به، بما يعنيه من إخلال بالتوازن يحرص جنبلاط أن يبقيه قائماً، بوجه كل محاولات خرق صفوفه وخلق ثنائية درزية، لم تثبتها الانتخابات النيابية لكن يراد إثباتها بالقوة والنفوذ وبدعم بعض الدروز من خصوم الجنبلاطيين. وهذا مشروع يعرفه جنبلاط تماماً، وقرأه جيداً في كلمة نصر الله الأخيرة، حين قال إن حزبه ضد احتكار تمثيل الطوائف بزعامة واحدة. ما يعنيه نصرالله ليس حباً بالتنوع، لكن طمعاً أن يكون لحزب الله في كل طائفة نفوذ حاسم عبر حليف أو أكثر.
منير الربيع / المدن