الإيمان ليس مرادفاً للجهل
بقلم الدكتور سعد كموني
عندما يحرض القرآن الكريم الإنسان على النظر في نفسه وفي خلقه، ويطالبه أن يسعى في الأرض ليعلم كيف بدأ الخلق، وأن يسعى في الأرض منقّباً ليرى حركة التاريخ ومصائر البشر، ومصارع السلاطين والشعوب، ويقدّم الكون بكل مكوّناته مسخّراً للإنسان؛ إنما هو بذلك يؤسس لآلية تفكيرٍ على الإنسان اعتمادُها ليعرف نفسه وكونه. فالمعلومات ليست جاهزة قبل النظر والتمحيص والسعي، بل هي من جرّاء حاجة أو حاجات تقتضيها الضرورة، وعندما تلحّ ضرورةٌ مستجدّة، لا يجوز بشكلٍ من الأشكال اعتماد معلومة موروثة، بل يستفاد منها لتجديدها أو تجاوزها بالعقل والسؤال والتجريب.
وعندما نقول هذا القول، ونطالب بإعمال العقل وتعميق السؤال،لا نرمي بذلك إلى نزع التديّن من الناس، بل نرجو فك الخصومةِ بين التديّن والعقل، فالإيمان بالله الواحد الأحد أمر يبلغه الإنسان بعد أن يكون قد استنفد تفكيره العقليّ في تعليل الكون وظواهره، وبعد أن يعجز بإزاء تسويغ الوجود يلجأ إلى الإيمان أو الإلحاد. أمّا التديّنُ الموروث بلا إعمال للعقل فإنّه بعيدٌ كل البعد من التدين الذي دعا إليه القرآن في قوله عزّ وجل:” ولا تقف ما ليس لك به علم” .
صحيحٌ أن التدين يردّ الأمر إلى الله وهذا لا نستنكره، بل ما لا يمكننا الموافقة عليه هو في تنحي العقل واعتماد التسليم إلى الله حلاً نهائياً قبل أيّ محاولة، في الوقت الذي ينبغي أن يكون مردّ أيِّ ظاهرةٍ إلى أسبابها الحقيقية، وفي البحث الحثيث عن تلك الأسباب، فلا ننسبها إلى عقوبة أو ثواب استنساباً وجهلاً. فمعرفة أسباب الأمراض واجبة، والتصدي لها أوجب، وهذا لا يكون بالتسليم. ومعرفة أسباب الزلازل والفيضانات، والكوارث الطبيعية واجبة، والتصدي لأخطارها أوجب. وهذا لا يكون بالتسليم… فالإنسان مطالبٌ بمعرفةِ المسخّر له، وعندما يسيء الفهم، أو يتعامل مع الكون بشكل خاطئ فإنما يصيبهم الضرر الفادح بما كسبت أيديهم، فلا يجوز إهمال تنخّل الطرق والأفكار قبل إطلاق الكلام والمواقف، حتى لا نودي بأيدينا إلى التهلكة ونقول أهلكنا الله! فالله يطالبنا بالإيمان به وبيوم الحساب، لذا سيحاسبنا لأننا تذاكينا في حضرته وتطاولنا في أدعيتنا وطالبناه كما لو أنه مسؤولٌ ـــــ جلّ وعلا ـــــ وقلنا له ارفع مقتك وغضبك عنا، وكأننا نعرف سريرته، في الوقت الذي خلقَنا فيه لنكون مسؤولين عن معرفة هذا الكون والسير فيه وفق ما نستنبط نحن من قواعد مما نعرف!!
لست داعية إيمانٍ ولا إلحاد، ولكنني أدعو إلى التجرؤ على الذات وإعادة تأثيثها بما تقتضيه الوقائع، والتجرؤ على طرائق التفكير لإعادة توليفها بعدما أضفت عليها الفتوح المعرفيّة ما أضفت، والتجرؤ على آدابنا وأخلاقنا وثقافتنا، .
ليس الإيمان بالله مرادفاً للجهل والخنوع والاستسلام، بل يؤدّي إلى الكرامة الإنسانيّة التي تتجلّى أكثر ما تجلّى في النشاط العقليّ الحر، والسلوك الذي يحيل عليه الأثر العقليّ، فالإيمان يحد من الشطط العلميّ على حساب الكرامة الإنسانيّة، والعقل الناشط يحصّن الإيمان من إغراء التكاسل والتواكل.
*أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية كلية الآداب والعلوم الإنسانية