لن نستفيد من عزلتنا !
الدكتور سعد كموني
وكان الحكيم المعروف سينيكا (4 ق م – 65 م) من الذين غضب عليهم “نيرون” وآثر العزلة إلى أن حاك له جملة اتهاماتٍ؛ وفتَك به، وقال بحق عزلته: “قرّرت الانغلاق بين أربعة جدران، لا أحد يستطيع أن يسرق مني نهاري”. ترى؟ من الذي يسرق النهار؟
إنّ أكثر الأوقات اقتراباً من السعادة عندما يكون الإنسان بمفرده. صحيحٌ لا نعرف المقصود تماماً بمفردة السعادة، غير أنها هدف لا يستهان به، ربما لو كنا نعرفها ما كنا نجدّ في طلبها، فالأوقات التي نُخمّنها أوقاتَها، هي الأوقات التي لا يعترف بها الزمن؛ فنعتقد أنها وراء جدار ما، أو بعد يوم ما، أو قبل يوم ما. فالعزلة التي قررها “سينيكا” قبل مقتله؛ كان يتوقع السعادة فيها، يجول في أنحائه الداخلية، يتعرف على كلماته التي لم ينطقها، أو يتعرف أكثر على آخرين يقيمون فيه من صغره، أو يحاول أن يبحث عن ابتساماتٍ مخنوقة ليمدها بالحياة وتمده، أو يداري أحزانه المكبوتة حتى لا تنفجر في وجهه دون أن يدري أحدٌ سبب الانفجار. ربما تكون السعادةُ في العزلة. ولكننا نرى أنّ شروط العزلة الناجحة، هي أن لا يدخلها التلفاز وفي ألوانه حشدٌ هائل من المنغِّصات التي لا تدعك وحيداً، فتسرق نهارك منك، وليلَك. كذلك ينبغي أن لا تكون نوافذ حاسوبك مفتوحةً على محترفي النكَد اليوميّ، من الذين يستمتعون بما يسرقون من أطراف حياتك الخاصّة. وهناك شروطٌ كثيرة ينبغي توافرها لتحقيق العزلة الناجحة كي نعيد صياغة الأفكار والأوهام واللغة، وأبرز ما يجب توافره من الشروط هو أن لا تكون تلك العزلةُ بالإكراه، سواء أكان من يمارس الإكراه “فيروس” قاتل، أم حاكم ظالم، أم حربٌ شعواء لا تميز الخبيث من الطيب….
انتهت عزلة “سينيكا” بمقتله، كيف ستنتهي عزلتنا الكورونية، ولو كان ادعى أنه قرر العزلة، إلا أنّ الفاعل الحقيقيّ المؤثر في اتخاذه هذا القرار، هو نيرون نفسه، وقد كان “سينيكا” مستشاراً له. وأجسادنا كانت أكثر من مستشارٍ لهذا “الفيروس” القاهر، فهي مساحات من الطبيعة، تتحرك مثلما تتحرك عناصر الطبيعة، تتشكّل من خلايا وجراثيم وبكتيريا وفيروسات أليفة ومعادية، فهل ستنتهي عزلتنا كما انتهت عزلة “سينيكا”؟
هناك خارج جدران العزلة من يتقن سرقة النهار، يتقن أساليب النطق بالظلمات بعضها فوق بعض، ليلقيها علينا من نافذة التلفاز أو الحاسوب، يدرك صعوبات الأحلام تحت وطأة الإكراهات المتلاحقة، فيحبط هدوء خيالاتنا المسافرةِ إلى ما وراء الجائحة اللئيمة.
إذن، لا علاقة للعزلة بالسعادة، ولا علاقة للسعادة بحياتنا أصلاً ، سواء كانت في العزلة أو بعدها. ما انتهت إليه عزلة “سينيكا” ستنتهي إليه عزلتنا، بغض النظر عن مظهر القتل أو طريقته، فحياتنا هي في مقدار عقولنا، وعندما يتم ربط عقولنا بآثار الفساد المدمّرة، ولا نملك القدرة على التفكير إلا وفقَ ما ألقي علينا، وعندما تذهب عقولُ الجميع باتجاه مقلقٍ صوب اللقمةِ والدواء والعمل الذي طردونا منه أو يهددوننا بالطرد منه، فنكون قد قتلنا، ومراسم الدفن تقررها الأنفاس المتبقية. شكراً “سينيكا”، وشكراً “جان جاك روسو”، سننسحب من التفكير انسجاماً مع قولك: “الحياة السعيدة منسحبة من العالم، متحررة من الزمن نفسه، ومن كل ما يرافقه كالندم والأمل والخشية”.
لست أدري إن كان يحق لنا الرهان على انتفاضةٍ تحمل في ثناياها جيلا يعرف مفاسدنا! ولكننا لا نملك خياراتٍ متعددة، فالانتفاضة رهاننا الوحيد وعلى كلّ المستويات.