حسان دياب المتخوف من السفراء والمرتعد من السياسيين
ينقسم المشهد في لبنان بين شرق متوهم وغرب غائب. سورياليته تحيلك إلى أطياف ماضٍ، وكأن الصراع فيه بين قطبين رأسمالي واشتراكي. البعض لا يزال قابعاً في تلك الحقبة، على الرغم من انقضائها المأسوف عليه بعض الشيء. “مأسوف عليه” لأن الصراع على أساس فكري وبين معسكرات مختلفة، يبقى أفضل من انقسامات منفعية أو طائفية أو عديمة الغاية والمعنى.
هزالة المشهد تكتمل بمواقف الحكومة ومكوناتها، وبمضمون أصبح معروفاً ولا يمكن القفز فوقه، يرتكز إلى واقع أساسي أن لا قدرة للصين ولا لروسيا على تقديم مساعدات للبنان أو الشروع في الاستثمارات، من دون موافقة أميركية.
وأمام هذه الحقيقة تسقط الدعاوى المتوهمة عن شرق وغرب وما
شابه، كما الادعاءات الأيديولوجية، التي يعتبر البعض أنه قادر على تعمية
الآخرين بها، فتارة يستلهم شخصية نيلسون مانديلا، وطوراً يستلهم صرخات
غيفارا رافضاً “التدخلات الديبلوماسية وتجاوزها الأصول والأعراف”.
بين نارين
الموقف
الذي خرج به رئيس الحكومة حسان دياب أمس الخميس، يندرج في سياق هذه
السوريالية. هو الذي جاء منذ اليوم الأول باحثاً عن شرعية خليجية وعربية
وأميركية، معتداً بسيرته كأستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت. لا يفوت
مناسبة لا يخطب فيها ود واشنطن، حتى عندما ذهب إلى صندوق النقد الدولي، بعد
أن كان شخصه ووظفيته، قبل رئاسة الحكومة، هو الصندوق الحاوي رسالة من حزب
الله إلى الأميركيين، مفادها الاستعداد للتفاوض عبر هذه الحكومة. وهو الذي
قبل أيام وقع بين نارين، نار غضب حزب الله من السفيرة الأميركية
وتصريحاتها، ونار الضغب الأميركي.
ربما “استخار” خيرة، فوجد غضب الأميركيين أسهل من غضب الحزب..
لأنهم أبعد. سارع إلى تسريبات تنفي اعتذار الحكومة عن قرار القاضي محمد
مازح. وقال لا أريد أي وجع رأس. وزير الخارجية في الحكومة التي يترأسها،
دعا السفيرة الأميركية وقدم لها الاعتذار، مشدداً على التعاون. كان هذا يوم
الاثنين. ويوم الخميس ثار دياب على “التصرفات الديبلوماسية التي تتجاوز
الأصول”. طبعاً، هو يقصد التحرك الديبلوماسي الأميركي والتحرك الديبلوماسي
السعودي، الذي لم يكن يقرأ فيه سوى “مؤامرة” تستهدف مسيرته وتعرقل حكومته.
وهو الذي يأتيه كابوسه مناماً ويقظة كلما عُقد لقاء سياسي في البلد، فيتخوف
من أن يكون المطروح هو إسقاط حكومته والإتيان بحكومة بديلة. أصبح يتوجس من
أي لقاء يعقده سعد الحريري. ويسارع إلى السؤال والاستفسار.
ضد ومع في لحظة واحدة
حكومة
تعتذر من السفيرة الأميركية وتهاجمها في آن معاً! تعيش عزلة لا مثيل لها،
رئيسها لم يطأ المطار منذ توليه رئاستها، إلا لتفقد رحلات إجلاء المغتربين
في فترة كورونا. لم ير مدرجاً ولا سجادة حمراء في استقباله لا في الشرق ولا
في الغرب، فافترش السجاد الأحمر لنفسه على مدخل مسجد محمد الأمين صبحية
عيد الفطر. ولم يوفر في كلامه أيضاً انتقاد “الأدوار التخريبية” الأخرى
التي لم يسمها. لكنه أسندها إلى معطيات أمنية في المجلس الأعلى للدفاع. وهو
يقصد بها ضمناً تركيا والدور الذي تلعبه في الشمال، حسب ما يُحكى. ينتقد
تركيا ويرسل مراسيله بغية الحصول على مساعدات سواء منها أو من قطر. يشن
هجوماً على حاكم مصرف لبنان والمصارف، يستقبلهم فيما بعد للتنسيق والتشاور.
وتتسرب الأجواء الإيجابية بعنوان “روحية التكافل”! بعدها يشهر سيفه
مطالباً بالتأميم وفتح أبواب السجون.
لا مشكلة لديه، طالما أن لا جمرك على الكلام، والإنسان بطبعه
“نسّاء”. والمواطن اليوم مشغول في الجوع وراكن في ظلمة بلا كهرباء، فلن
يكون في حالة ترف فكري تجعله يفكك سقطات دياب وخطاباته وتناقضاته. يركن إلى
لازمة واحدة أصبحت متكررة، أنه ارتضى المواجهة.. وتتم عرقلته، بما يشبه
لازمة العونيين “ما خلّونا”. يضاف إليهما شيء من الزبد والرعد والتهديد
والوعيد.
اللجوء إلى الحزب
أمس استشعر خطراً
داهماً. هو يعرف أن نبيه بري ووليد جنبلاط وسليمان فرنجية “لم يقبضوه”. هو
أفضل استثمار لسعد الحريري. التيار الوطني الحر نفض يده منه، وانقلب عليه،
عندما انقلب على خطة الحكومة. لم يبق لديه إلا حزب الله. الحزب الذي لجأ
إليه دياب قديماً أيام كان وزيراً في حكومة ميقاتي، عارضاً خدماته ليتولى
هو رئاسة الحكومة. وها هو الآن يعود إليه أمس للسؤال والاطمئنان حول مصيره
ومصير حكومته، بعد مواقف التيار الوطني الحر وبعض الوزراء. تبرّدت جوارح
قلبه عندما سمع تمسكاً به. ظن نفسه شمشوناً، فقرر المواجهة. واختار اللعب
بتحاذق على الحبال. فبعد مهاجمته مختلف السفراء، استقبل السفير الصيني.
اتجه شرقاً كما يتمنى حزب الله، وربما ينتظر مساعدات إيرانية من فيول
وأدوية ومواد غذائية. ربما عندها فقط سيعلن دياب انتصاره، بأنه غيّر وجه
لبنان “الفساد والفجور”.
وعلى هذه الحال، من يكون في عزلته لا يرى الكون يدور حول سواه. دولة الرئيس في السرايا، وتطورات لبنان في الشوارع وفي الصالونات. السرايا “صومعة صوفية”. وهذا جزء من شخصيات دياب المتنوعة، مهادناً، ثائراً، انتحارياً، تكنوقراطياً، صوفياً.. ولا علاقة له بالسياسة.
المدن