الدولة بين السياسة والأخلاق!
كتب نقولا ابو فيصل*
طرح هذا الموضوع جدلا كبيرا بين الفلاسفة والمفكرين، فقد تبنى بعضهم مقولة الايطالي ميكيافللي في أن الغاية تبرر الوسيلة، واعتبر ان نجاح العمل السياسي يحقق إستقرار الدولة وحفظ النظام وضمان مصالح الناس بغض النظر عن الوسائل المتبعة في ذلك، حتى وإن كانت لا أخلاقية. بل ذهب صاحب المقولة الشهيرة اياه إلى أبعد من ذلك، زاعمًا أن الأخلاق تقيد الممارسة السياسية وتعرقل دورها في تحقيق الغاية من وجود الدولة، وأن الدول التي تبني سياستها على الأخلاق تنهار بسرعة. ووافقه في ذلك الالماني نيتشه الذي رأى أن السياسة لا تتفق مع الأخلاق في شيء، وان الحاكم المقيد بالأخلاق ليس بسياسي بارع، وهو لذلك غير ثابت على عرشه، وله الحق في اللجوء الى الخداع والكذب لأن الأمانة والرحمة والمحبة تصير رذائل في السياسة، وعلى الحاكم أن يكون قويا لأن الأخلاق هي سلاح الضعفاء ومن صنعهم، فالمحكوم إنسان والإنسان شرير بطبعه يميل إلى السيطرة والاستغلال والتمرد، ولو ترك على حاله لحل الفوضى والظلم واستغلال القوي للضعيف، وعليه يتوجب استخدام القوة لردع ذلك الشر حفاظا على الاستقرار. وبما أن المصالح تحكم العلاقات بين الدول، تجد الدولة نفسها بين خيارين: إما أن تعمل على تحقيق مصالحها بغض النظر عن الاعتبارات الأخلاقية، وإما أن تراعي الأخلاق التي قد لا تتفق مع مصالحها، فتفقدها ويكون مصيرها الإنهيار .
وعليه نستنتج أن “أخلقة” السياسة ليست سهلة، فالقيم الأخلاقية وحدها لا تكفي لجعل النظام السياسي قويا وقادرا على فرض وجوده وإحترام القانون.
في الواقع أرى انه لا يمكن الفصل بين الأخلاق والسياسة في اي حال من الأحوال، فممارسة العمل السياسي يجب ان يكون من اهدافه تجسيد القيم الأخلاقية وترقية المواطن، والحفاظ على حقوقه. وإذا كان من وظائف الدولة حماية حقوق مواطنيها والدفاع عنها، وحماية نفسها وحماية مواطنيها من شر المواطنين أنفسهم ومن شر الأعداء الخارجيين أيضا، يصبح استخدام القوة “الرادعة” الذي تمارسه الدولة مشروعا، بهدف حماية مصالح المواطنين وممتلكاتهم وضمان حقوقهم.
وهكذا يتضح أنه لا يمكن إطلاقا إبعاد القيم الأخلاقية عن السياسة رغم صعوبة تجسيدها في الواقع، لكن الفضائل الأخلاقية من دون قوة بحدها “المشروع” تبقى مجرد مثل عليا، كما أن القوة من دون أخلاق تتسبب بالتعسف وتبرر الظلم. وهكذا، ان السياسي الناجح هو الذي يتخذ من القوة “المشروعة” وسيلة لتجسيد القيم الأخلاقية وسبيلا الى “الاخلقة” المنشودة للعمل السياسي.
أما في لبنان فقد سيطر “منطق اللا منطق” في أن الكذب في ممارسة العمل السياسي لا يعتبر عيباً أو جريمة ولا يتسبب بضياع الوطن، بحيث بات اللبناني لا يستطيع أن يميّز بين السياسي الادمي والازعر ، بين الخائن والمحب لوطنه، وصارت الطائفية السياسية تقوم على إلغاء القيم الاخلاقية بحجة حفظ حقوق الطائفة. والحقيقة أن ليس في لبنان طوائف سياسية بل هناك حزب واحد وطائفة واحدة من كلّ الطوائف تضم مجموعة من الاشخاص إتفقوا أن يختلفوا في الاعلام بحجة حماية مصالح الناس، فيما هم في الواقع يحافظون على مصالحهم الشخصية في السلطة والثروات التي كدسوها في المصارف السويسرية بعدما امعنوا في نهب الوطن والمواطن، ناهيك عن التأقلم ومصالحهم مع كلّ التقلبات السياسية التي مرّ فيها لبنان من المحتلّين طورا والظالمين والطامعين في لبنان الكيان طورا آخر . اما عدوهم الوحيد فكان ولا يزال الأخلاق والقيم الوطنيّة التي كلّما ازدهرت كان رجال السياسة عندنا يحاربونها، وربما يساهمون عن قصد او غير قصد في اغتيالها. وللاسف نجحوا في خراب لبنان، وتشويه سمعته والقضاء على مقدراته المصرفية، والتربوية، والصحية، والصناعية، والخدماتية، فيما بات اللبنانيون يرددون مع الصالحين “حسبي الله ونعم الوكيل”، ويسألون الله أن يأخذ لهم حقهم بعدما عجزت الثورات والحركات الاعتراضية عن فعل ذلك.
*رئيس تجمع الصناعيين في البقاع مدير عام مجموعة غاردينيا غران دور