العنبر رقم 12
بقلم الدكتور نمر فريحة
لائحة المدعوين
مساء الرابع من آب والخامس منه حدثت أمور من الصعب الإحاطة بها كلها. أحداث فردية لكنها تتّسم بالندرة عندما توضع في إطارها الحياتي والعادي. أحداث خلّفت آلاماً لا يشعر بها أهل السلطة أو البعيدون عمّا حصل. يعيشها ويتوجّع بسببها الأهل والأصدقاء والأقارب فقط، والأمثلة كثيرة.
سمَر تودّع أمها عند خروجها من باب المنزل:
-أنا ذاهبة، أراك مساء ماما.
-الله معك حبيبتي. انتبهي لحالك.
-ما قلت لي شو رح يكون العشا اليوم؟
-أكلة بتحبيها. رح أعملها وانطرك. لكن هذا العشاء المتأخر ليس صحياً.
-تعرفين أن دوامي يبدأ متأخراً كل اسبوعين، وينتهي كذلك.
-صحيح. الله يرد عنك.
هكذا كانت الجمل الروتينية التي تتبادلها سمر يومياً مع والدتها قبل ذهابها إلى العمل. وما كادت تغادر المنزل حتى رنّ هاتفها، فسبقت المتصل:
- مساك مسك وعنبر.
-مسا الورد، كيفك حياتي؟
-منيحة. كالعادة، لا شيء جديد.. اليوم دوامي المسائي.
-حبيت اسمع صوتك قبل ما تبلشي الشغل. بتصل فيك بعدين.
-أوكى حبيبي.
هكذا بدأ ما بعد ظهرٍ عاديٍ ليوم حار من أيام آب اللّهاب. مرّت أربع ساعات ليسمع غسّان أن انفجاراً قد حصل في بيروت، وبشكل تلقائي اتصل بسمر، لكن هاتفها مغلق. انتظر قليلاً وعاود الاتصال، لكن الخطّ مازال مغلقاً. جرّب رقم ابن عمه الساكن في فرن الشبّاك، فردّ عليه، وسبقه:
-تريد الاطمئنان عنا؟ نحن بخير، لكن الانفجار كبير، والدخان يغطي سماء بيروت.
-نعم أردت الاطمئنان، يبدو أن الخطوط الهاتفية تعمل بشكل عادي.
-أجل. ربما بعضها تعطّل، لكن لا مشكلة عندنا هنا.
-بنحكي بعدين.
هل سمر أقفلت هاتفها في العمل لتتفرّغ لمهامها؟ هل بدأوا بتلقي المصابين من الانفجار؟ لكن من عادتها أن ترسل لي رسالة سريعة تقول بأنها مضطرة لإغلاق خطها “حتى ما ينشغل بالك”. ترى ما حصل؟ هل هي بخير؟ قاد غسان سيارته نحو بيروت كي يطمئنّ على خطيبته، وألفُ فكرة تضجّ في ذهنه. وشعر بالندم لأنه لم يسألها عن الرقم العادي في عملها، إذ لم يحتَج يوماً الاتصال بواسطته. بمن يتصل الآن؟ أمها؟ كيف تستطيع الإجابة إذا كانت سمر متأذّية؟ طلب رقم المنزل، لكن أحداً لم يجب. ازداد اضطراباً. بمن يتصل؟ وإلى أين سيذهب؟ قاد السيارة إلى منزل ابن عمه، وطلب إليه مرافقته بعد أن أخبره بأنه قلق على سمر ويريد الذهاب إلى مكان عملها.
وعلى مسافة تزيد عن خمسمئة متر من مستشفى القديس جاورجيوس، لم يستطيعا إكمال السير بالسيارة لأن الزجاج يغطي الشارع، فركناها جانباً، وترجّلا، وسارا نحو المستشفى حيث صُدما بالمشهد الذي يشبه ما يراه الانسان في السينما من دمار داخلي وكلّي للمستشفى، وموقف السيارات تحوّل إلى مستشفى ميداني حيث الجرحى والمرضى والجسم الطبي يملأونه. الأطباء والممرضين خليّة نحل في ظروف أبشع من ظروف الحرب. إنهم الجنود المجهولون عندما تقع الكوارث. إنهم أبطال لا يطلبون إلى الناس الاعتراف بفضلهم في إنقاذ حيواتهم، بل يؤدّون أدوارهم بصمت وفرح. وفي تلك اللحظات كان الأهالي قد مُنعوا من الاقتراب من مكان معالجة المصابين كي لا تدبّ الفوضى.
سأل غسان إحدى الممرّضات من بعيد عن سمر، فنظرت إليه قليلاً، ولم تجبه. راح يراقب بدقة كل امرأة ترتدي ثياب التمريض الزرقاء. لكن سمر ليست بينهن. لمح أمها وأختها بين الناس وهما تبكيان وتطلبان معلومات عنها، فانضمّ إليهما، وأصرّوا على رجال الأمن بأن يفسحوا لهم المجال كي يدخلوا إلى الموقف-المستشفى، أو يعطوهم معلومات عن سمر. وفي هذا الجو المتوتّر والضاغط، تقدّم منهم أحد موظّفي المستشفى ليبلغهم أن سمر مصابة بجروح عديدة في جسدها، وتُجرى لها عملية في هذه اللحظات. لكنهم لم يقتنعوا بكلامه، بل أصرّوا على معرفة وضعها. ذهب وأرسل لهم موظفاً آخر ليبلغهم بالحقيقة السوداء.
والحقيقة الأخرى هي عندما خطّط غسان وسمر ليتزوّجا في بداية الصيف القادم، لم يكن الانفجار على لائحة المدعوين. - الحلقة (3/30)