الحريري المستدعى إلى بعبدا: كذبة التفاؤل أم معجزة “الميلاد”؟
تمثل عمليات تشكيل الحكومة في لبنان أبرز تجليات بؤس السياسة اللبنانية. إنها التفاهة القاتلة في المعنى السياسي العميق والبعيد المدى. شخصيات سياسية وقوى غير مسؤولة تتصارع فيما بينها على تحسين شروطها وتعزيز مكاسبها. قد يكون ذلك للوهلة الأولى مبرراً، لكن التصارع على إشاعة الأجواء الإيجابية الكاذبة، أمر غير مبرر لا سياسياً ولا أخلاقياً. إلا أن القوى السياسية اللبنانية تبرع في انتهاج الكذب وفي المزايدة باصطناع الإيجابية، لتتبارز لاحقاً فيما بينها بتقاذف مسؤولية التعطيل والفشل.
خلاصة واحدة ومعجزة
لم تكن المرة الأولى التي يعلن فيها سعد الحريري أن الأجواء إيجابية في عملية تشكيل الحكومة، ليتبين لاحقاً أن الجلسة كانت عاصفة بينه وبين ميشال عون. وتدخل الأمور في صراع البيانات والسجالات التي لا تنتهي. الخلاصة واحدة: عون لا يريد الحريري. وبحال وافق على حكومته، يعني أن ثمة ضغوطاً دولية قاسية فرضت عليه ذلك. وفرضت على الحريري تقديم تنازلات. وهذا إذا تحقق في فترة ما، طويلة أو قصيرة، يكون نتاجاً لمعجزة، هدفها منع حصول الانهيار الكبير أو الارتطام النهائي للبلد.
في موازاة التفاهة السياسية، هناك تفاهة يبرزها التهافت الإعلامي المتسابق على تسريبات لا عقل فيها ولا منطق، على غرار ما حصل أمس لدى الإعلان عن التوافق بين الحريري وعون على تشكيلة حكومية من 3 ستات، 6 لعون وفريقه، 6 لقوى 8 آذار، أي 4 للثنائي الشيعي، واحد لتيار المردة وآخر للحزب السوري القومي الاجتماعي، و5 وزراء للحريري وجنبلاط وميقاتي، فيما يبقى وزير أطلقت عليه صفة الوزير الملك، هو وزيرمسيحي من حصة الحريري لوزارة الداخلية، ولكن بتسمية من عون. وهنا مكمن التفاهة والتحايل على كل ما له صلة بالمنطق.
أولاً، هذه الصيغة كانت مطروحة منذ البداية بالنسبة إلى الحريري، على أن يكون الوزير الملك المسيحي من حصته، ووزيراً للداخلية. الأمرالذي رفضه عون، وطالب بأن يكون هذا الوزير محسوب عليه، فرفض الحريري. لا جديد في الصيغة إلا نوع جديد من التكاذب واللعب على الكلام. والمقصود به هو التنازل عن الثلث المعطل، أي سبعة وزراء لعون مقابل حصول الحريري على ستة، ووزير آخر يسميه عون أو يوافق عليه من حصة الحريري للداخلية.
استدعاء الموظّف!
إنشغلت الأوساط اللبنانية بهذه التفاصيل طوال ليلة أمس. وسيستمر الانشغال طوال يوم الأربعاء، قبل زيارة الحريري إلى بعبدا مجدداً. إذ تشيرالمعلومات إلى أن النقاش بين الرجلين بعد ظهر الثلاثاء، تركّز على البحث في توزيع الحقائب. وسيستكمل بلقاء الأربعاء. حرب التسريبات هذه أيضاً كانت تستهدف الجهات الديبلوماسية. أراد الحريري أن يُظهر تفاؤله إلى حد بعيد بقرب ولادة الحكومة، في إشارة إلى أنه أكثرالمسهّلين والمتساهلين. فردّت أجواء عون بالمثل أيضاً للإيحاء بالإيجابية. وذلك لعدم تحمل أي طرف مسؤولية التعطيل على مرأى العالم.
في الأساس، كانت دعوة عون للحريري لزيارة قصر بعبدا تتسم بشائبة واضحة. فقد أبلغه بموعد اللقاء عبر مدير المراسم البروتوكولية. وهذه إشارة سلبية من رئيس جمهورية تجاه رئيس حكومة مكلف. أظهر الأول وكأنه استدعى الثاني كموظفٍ، لا كرئيس مكلف. تلك الإشارة، تتطابق معها إشارات أخرى في النبرة التي تحدث بها عون داخل الاجتماع.
إشارات متناقضة
هذا الأمر عكس أجواء متناقضة لدى العونيين. بعضهم أراد الإشارة إلى الإيجابية، والبعض الآخر كان سلبياً، معتبراً أنه لم يتحقق أي تقدم. والنقاش لا يزال في مكانه. عون متمسك بوزارة العدل والداخلية، والحريري يريدهما من حصته. أبدت أوساط عونية انزعاجها الشديد من الحريري، وتصريحه الإيجابي. واعتبرت أنه لا ينطوي على أي جدية. وغايته أن يخرج بعد يومين ليحمّل جبران باسيل مسؤولية التعطيل.
لا أحد يمتلك معطيات جدية حول احتمال ولادة الحكومة. ولكن بحال شُكلت وفق المعطيات المسربة، فلن تكون إلا نسخة سياسية عن الحكومات السابقة. وستكون دليلاً جديداً على الانهيار اللبناني، الذي تدفع إليه التفاهة نفسها التي أنتجت هكذا حكومة بعد كل هذه النزاعات والصراعات. إذ تحول الصراع من الحديث عن “حكومة مهمة” و”حكومة اختصاصيين” إلى النزاع على وزارتي العدل والداخلية.
المدن