
الشيخ كميل سري الدين: قامةٌ لبنانيةٌ تشعُّ بالعطاء والريادة!


بقلم الدكتور نضال العنداري
حين يُذكر العطاء، تتلألأ أسماءٌ في سماءِ المجدِ كنجومٍ أبدية، لا تخفتُ أنوارها ولا تنطفئُ آثارُها. هم أولئك الذين لا تُحصى ثرواتهم بعدد الأصفار في حساباتهم، بل بمقدار ما نقشوهُ في قلوبِ الناس، بما زرعوه من خيرٍ في دروب الحياة، وبما تركوهُ من بصماتٍ لا تمحوها السنون.
هناك رجالٌ يمرّون في الدنيا عابرين، لا يُحدثون أثرًا ولا يتركون ذكرى، وهناك رجالٌ كُتب لهم أن يكونوا مناراتٍ مضيئة، تُلهمُ الأجيال وتُخلّد أسماؤهم في صفحات التاريخ. رجالٌ جعلوا من الكرامةِ نهجًا، ومن العطاءِ رسالة، ومن النجاحِ وسيلةً لا غاية، فكانوا حيثما حلّوا بناةً، سادةً، وداعمي خيرٍ.
والشيخُ كميل سري الدين هو أحد هؤلاء الكبار، الذين خاضوا معركة الحياةِ ليس فقط بذكاءِ التاجر، بل أيضًا بنُبلِ الإنسان، وشهامةِ المُعطي، وصدقِ صاحب الرسالة. في كل خطوةٍ خطاها، كان يؤمن أن المال ليس غاية، وإنما وسيلةٌ لبناءِ مستقبلٍ أكثر إشراقًا، ومساندةِ من يحتاج، وردِّ الجميلِ للوطنِ الذي منه خرج وإليه يعود القلب ولو ابتعدت المسافات.
هو رجلٌ لم يُعرف فقط بما أسّسه من مشاريعٍ ناجحة، بل بما غرسهُ في قلوبِ الناسِ من محبة، وبما خطّهُ من مواقفَ لا تُنسى، حمل فيها همّ أبناء بلده، ودعمَ المغتربين، ورفعَ رايةَ الإنسانية أينما كان. لم يكن مجرد رجل أعمال، بل كان جسرًا بين النجاح والخير، بين الطموح والمسؤولية، وبين المجد والتواضع.
إن الحديث عن الشيخ كميل سري الدين، ليس سردًا لسيرةِ رجلٍ نجحَ في عالم التجارة فحسب، بل هو روايةُ كفاحٍ، وقصةُ التزام، وملحمةُ عطاءٍ ستبقى حيّةً ما دام الخيرُ يُروى بجهدِ الرجال العظام.
رحلةُ الكفاح: من البداياتِ إلى القمم
وُلِد الشيخ كميل سري الدين في لبنان، ذلك الوطن الذي يُنجب الرجال الذين يحملونَه في قلوبهمِ أينما ارتحلوا. في منتصفِ سبعينياتِ القرن الماضي، حملَ طموحَه على كتفِه، وتركَ وطنه الأم متجهًا إلى أبوظبي، حيثُ بدأ خطوتهُ الأولى في عالمِ التجارة. كان شابًا طموحًا، لا يُرهبُهُ التحدي، ولا تُعيقه العقبات.
بدأ عملهُ في تجارة الرخام، واضعًا أسسًا متينةً لمشروعه، وسرعان ما أسَّس شركته “سري الدين للتجارة”، التي سرعان ما أصبحت من كبارِ الشركاتِ المُورِّدةِ للرخام ومواد البناءِ من إيطاليا إلى الإمارات. لكنه لم يتوقف عند ذلك، بل وسّع أعماله لتشمل السيراميك، والمطابخ الجاهزة، والأخشاب، والمواد الأولية للبناء، مُواكبًا النهضةَ العمرانيةَ في الإمارات، حتى أصبح اسمُه علامةً فارقةً في عالمِ الأعمال.
لم يكن نجاحه في عالم التجارة وليد الصدفة، بل امتدادًا لرحلة كفاح بدأت في سنٍّ مبكرة. فهو ينتمي إلى بيت جبلي لبناني متواضع، تربَّى على قيم الشرف، الكرامة، النخوة، والاستقامة، التي توارثها أبًا عن جدّ، وغرسها في أبنائه وأحفاده.
في منتصف الستينيات، حين اكتشف أن والده المهاجر إلى إفريقيا يواجه ضائقة مالية بسبب التقلبات السياسية هناك، قرر أن يتحمل المسؤولية، كونه الابن البكر. رغم عمله في طيران الشرق الأوسط، لم يكن راتبه يكفي لإعالة أسرته، فشدّ الرحال إلى إفريقيا في عام 1965 لمساندة والده. ومن هناك، بدأت مسيرته الحافلة بالتحديات والنجاحات، متنقلًا بين ليبيريا، البرازيل، وفنزويلا، قبل أن تستقرّ به الرحلة في أبوظبي.
شركة الديار للمقاولات: صرحٌ في عالم البناء
إلى جانب “سري الدين للتجارة”، أسس الشيخ كميل “شركة الديار للمقاولات العامة” في أبوظبي، والتي تُعد اليوم من أكبر شركات المقاولات في الإمارات، إذ يعمل فيها حوالي ألف موظف، وأكثرهم من عائلات الجبل ولبنان، في دلالة واضحة على التزامه بدعم أبناء وطنه وتأمين فرص العمل لهم.
عطاءٌ بلا حدود: الخيرُ نهجٌ لا مهنة
لكن الشيخ كميل لم يكن يومًا تاجرًا بالمعنى التقليدي، بل كان رجلًا يرى النجاح الحقيقي في العطاء. لم يكن هدفُه فقط أن يُراكمَ الأرباح، بل أن يُضيء حياةَ الآخرين، وأن يكون جسرًا بين حاجاتِ الناسِ وإمكاناته.
فمنذُ أن وطأت قدماهُ الإمارات، لم ينسَ وطنه الأم، ولم ينسَ واجبَه تجاه أبناء طائفتهِ وأبناء وطنه. لعب دورًا رئيسيًا في دعم “بيت اليتيم الدرزي”، حيث كان صلةَ الوصلِ بين هذه المؤسسةِ ودولة الإمارات، لضمانِ تدفُّقِ المساعداتِ والدعم لها، ليس فقط بالمال، بل بالسعي الحثيث لضمان استمراريتها ونموها. زوجتهُ الفاضلة كانت بدورها عضوًا في لجنة سيدات بيت اليتيم الدرزي، مما جعلهما معًا من أبرزِ الداعمين لهذه المؤسسةِ التي تُعنى برعايةِ الأطفالِ المحتاجين.
كما كان من المؤسسين والداعمين لمستشفى الجبل، حيث ساهم في إنشاء هذا الصرح الطبي الذي يخدم أبناء المنطقة، ليكون عنوانًا للعناية الصحية ومساندة المحتاجين.
لكن أياديه البيضاء لم تقتصر على ذلك، بل امتدت إلى كل زاويةٍ من زوايا الخير، فدعم مؤسساتٍ وجمعياتٍ لبنانيةٍ عديدة، ومدَّ يدَ العونِ للعديدِ من العائلاتِ المحتاجةِ، مؤمنًا بأن الإنسانَ لا يُقاسُ بثروتهِ، بل بقدرِ ما يُقدِّمهُ من خيرٍ للآخرين.
دورٌ قيادي في الاغتراب اللبناني
لم يكن الشيخ كميل رجلَ أعمالٍ فحسب، بل كان صوتًا لأبناءِ الاغتراب، وقائدًا لحراكهم، وسندًا لقضاياهم. في العام 2000، شارك في تأسيس مجلس العمل اللبناني في دبي بالتنسيق مع السفارة اللبنانية والسفير حسن برو، وانتُخِب نائبًا للرئيس حتى العام 2006، مؤكدًا على أهمية توحيد الجهود بين رجال الأعمال اللبنانيين في الإمارات.
أما في الإمارات، فقد كان له دورٌ كبيرٌ في دعمِ مؤسساتِ الجالية اللبنانية، فكان من المساهمين في بناء السفارة اللبنانية في أبوظبي، مؤكدًا أن الاغترابَ لا يعني القطيعة، بل هو فرصةٌ لتعزيزِ الروابطِ بين أبناء الوطن.
بصماتٌ اقتصادية: حضورٌ استثنائي في عالم الأعمال
عرفت غرفة التجارة والصناعة في الإمارات قدرَ هذا الرجل، فانتُخب كأول عربيٍّ عضوًا في مجلس إدارتها، ليؤكد أن النجاحَ لا تحدُّه حدودٌ، وأن الإبداعَ لا تحصرهُ جنسيةٌ أو هويةٌ. في بزبدين، حيثُ تمتدُّ جذورُه، تحوَّلت دارتهُ إلى ملتقى للشخصياتِ البارزة في الأمن، والسياسة، والاقتصاد، حيثُ اجتمعَ تحت سقفِها نخبةُ الرجالِ الذين يؤمنون بأن الكرامةَ لا تُشترى، وأن العطاءَ هو أكبرُ استثمارٍ في الحياة.
رئيس لجنة الاغتراب في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز
لم يكن الشيخ كميل سري الدين مجرد اسمٍ في عالم الأعمال، بل كان ركيزةً أساسيةً في تمثيل الاغتراب اللبناني، مؤمنًا بأن الاغتراب ليس انقطاعًا عن الجذور، بل امتدادٌ لها، وتواصلٌ بين الوطن وأبنائه في أصقاع الأرض. كرئيسٍ للجنة الاغتراب في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز، حمل هموم المغتربين، وكان صلة الوصل بين أرض الجبل وقلوبٍ لم تفارقها روح الانتماء. سعى لتوحيد الجهود، ومدّ الجسور، وتعزيز الروابط بين أبناء الطائفة في المهجر، ليكونوا يدًا واحدة، وقلوبًا تنبض بحب الوطن والتآزر بين أبنائه.
تكريمٌ مستحق: رجلٌ لن يُنسى
لأن الكبارَ لا يغيبون، ولأن الرجالَ الحقيقيين يتركون أثرًا يبقى، فقد حاز الشيخ كميل على تكريماتٍ عديدةٍ، اعترافًا بإنجازاته، ليس فقط كرجلِ أعمالٍ ناجح، بل كإنسانٍ عاشَ ليترك أثرًا، وخاض الحياة ليُخلِّف وراءه إرثًا من العطاء والإنجاز.
قصةٌ لم تنتهِ
إذا أردتَ أن تكتبَ عن النجاح، فاكتب عن الشيخ كميل سري الدين.
إذا أردتَ أن تكتبَ عن الكرامة، فاكتب عنه.
إذا أردتَ أن تكتبَ عن العطاء، فاكتب عنه.
هو ليس مجردَ اسمٍ في عالمِ التجارة، ولا مجردَ شخصيةٍ اغترابية، بل هو مدرسةٌ في الشرف، ومثالٌ في التفاني، ورمزٌ في البذل والعطاء.
وكما يُقال: “يبقى حيًّا من يتركُ أثرًا في قلوبِ الناس”، والشيخ كميل ترك أثرًا لن يُمحى، لا في عالم الأعمالِ فحسب، بل في ذاكرةِ من عرفوه، وفي وجدانِ من لمسوا عطاءه، وفي صفحاتِ التاريخ التي لا تنسى الرجالَ العظماء.
إنها مسيرةٌ تُكتب بماء الوفاء، وشهادةٌ ينقشها التاريخ على جدار الخلود، فالكبار لا يُقاسون بأموالهم، بل بمواقفهم، والشيخ كميل سري الدين كان وسيبقى رمزًا للعطاء، ونموذجًا للكرامة، وشعلةً لا تنطفئ في سجلّ الرجال العظام.
بقلم الدكتور نضال العنداري