الـ”هيد كات” آت وليس الـ”هير كات”: أين رياض سلامة؟
كان رشيد (زياد الرحباني) في مسرحية فيلم أميركي طويل، يسرد ما حصل معه في الحرب الأهلية. فحين كان ينظر إلى الناس كيف تستعيد حياتها الطبيعية في بلد يضع أوزار الحرب ليدخل مرحلة السِلم، كان هو المقاتل ينتظر أوامر زعيمه “أبو الجواهر”، فيطمئنه الأخير إلى أن الحرب مستمرة، بمعنى أن استفادته من الحرب مستمرة. وفجأة، ظهر أبو الجواهر بهيئة أخرى، زعاماتية مدنية مناقضة لهيئته الميليشياوية، نافضاً يديه من رجس الحرب، وكأن شيئاً لم يكن.
انتهى أبو الجواهر بصورته العسكرية، إذ تغلغل في النظام اللبناني بعد الحرب، وجاء بالعديد من “أبو الجواهر” وعلى شاكلته، بأسماء ومهام مختلفة، تضمن على اختلافها، استمرار الانتفاع من زمن السلم كما حصل في زمن الحرب. وأشهر وأضمن أدوات الانتفاع السلمي، هي الأموال. فكانت السياسات المصرفية التي نهبت أموال الناس بلا رجعة.
محاولات التهدئة
كل
“أبو الجواهر” حاول تهدئة جمهوره وطمأنتهم إلى أن الأمور “بخير”. وهذه
الصفة نسبية، فكلٌ يفسّر معناها وفق منظوره. أحدهم يرى الخير في بقائه على
كرسيه، والآخر يفسّرها بانتهاء موجة التظاهرات، وثالث بفرض شروطه السياسية
على خصومه.. ولا أحد من هؤلاء فسّر الخير من وجهة نظر الناس، أي ضمان لقمة
عيشهم وما يستندون إليه من بعض المدّخرات والتعويضات التي اختفت في بطن
المصارف.
والتهدئة لم تنفع، إذ حاول حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الإيحاء بأنه
يسيطر على الوضع، وأن مصرفه المركزي “حرص على عدم تعثر أي مصرف لأن التعثر
يعني خسارة أموال المودعين”، وفي المقابل، أكّد أن لبنان على بُعد أيام من
الانهيار الاقتصادي، مشدداً على ضرورة إيجاد حل خلال أيام لاستعادة الثقة
وتفادي الانهيار.. واختفى بعدها سلامة.
بلا مساءَلة ولا محاسبة
إنكفأ
سلامة وطلّق شاشات التلفزة وخاصَم البيانات والتصريحات الإعلامية. سلَّم
بالانهيار الذي كان يرفض الاعتراف به، وانسحب. ترك الساحة مفتوحة أمام جشع
جمعية المصارف التي بطشت بالناس عبر قراراتها، التي تسرق أموالهم أمام
أعينهم وأعين الجهات الرقابية وعلى رأسها مصرف لبنان، الذي يتجاهل دوره في
مثل هذه الظروف. فحاكم المصرف من المفترض أن يطل على الناس بشكل متكرر
ليفهم الناس حقيقة ما يجري مع المصارف، وليطمئن الناس في حال دعت الحاجة.
الابتعاد عن الحقيقة لم يقتصر على سلامة، فالرؤساء الثلاثة ووزير المال
ولجنة المال والموازنة النيابية لا يقومون بدورهم، لناحية استدعاء سلامة
للاستماع إليه ومساءلته اذا اقتضى الأمر. فهو موظف لدى الدولة، وهناك
إجراءات إدارية ومسلكية يفترض تطبيقها عند حصول خلل. وما يعيشه لبنان اليوم
يدل على وجود خلل كارثي في الأداء.
لماذا رياض سلامة؟
السؤال
حول رياض سلامة يختزل اتجاهين. الأول، أين سلامة من الاجراءات غير
القانونية التي اتخذتها جمعية المصارف، والتي تُرمى أسبابها على المصرف
المركزي. والثاني، حول دور سلامة في إيجاد الحلول في مثل هذه الظروف.
سلامة اختفى من المشهد، تماماً كاختفاء الطبقة السياسية التي أمّن لها
الرخاء من مال الناس منذ العام 1993. لا صوت لسلامة كما لا صوت للسياسيين
سوى بالتناحر والغوغائية البعيدة عن الاجراءات الاقتصادية العلمية.
الاختفاء
متوقَّع ومعروف، فماذا سيقول الحاكم إن أطلّ على الناس؟ أنا مهندس
السياسات المالية التي أوصلت البلاد إلى الانهيار؟ وأبعد من ذلك، هل ستسمح
الطبقة السياسية التي استفادت من سلامة، بانهياره ومحاسبته؟ بالتأكيد لا.
إلى أين؟
أموال
الناس استُبيحَت، والمصارف باتت تبحث مع كبار مودعيها إمكانية شرائهم
لأسهم في المصارف، بهدف زيادة رأسمال المصارف والتخلص من عبء اضطرارها لدفع
مزيد من الأموال لمستحقيها. أما السلطة السياسية، فما زالت ترفض الاعتراف
بمسؤوليتها، وتبحث عن الحل في المزيد من الكلام غير المجدي. ويعبّر موقف
رئيس لجنة المال والموازنة النائب ابراهيم كنعان عن هذا التوجه عبر قوله أن
“ما يحصل في لبنان والشارع وانعكاسه على الوضع المالي والاقتصادي لن يمر
مرور الكرام، ومستعدون للتواصل مع من يريد إبداء رأيه من المجتمع العلمي
والتقني”. يقول كنعان ذلك، وكأن الوقت يسمح بإبداء الرأي وإعطاء الرأي
الآخر، مع أن المجتمع العلمي والتقني، محلياً ودولياً، حذّر مراراً من
السياسات التي رسمتها السلطة مجتمعة، ودعا لتغييرها تجنباً للوصول إلى ما
نحن عليه. فلماذا لم يتحرك أحد من أحزاب السلطة؟.
اليوم ما عادت النظريات تفيد، الإجراء الوحيد المفيد هو إغراق البلاد بالدولار، فهل لديكم دولار؟ إن كان الجواب سلبياً، فإن لبنان ينتظر قطع الرأس، أي الـ”هيد كات” Head cut، حيث لم تنفع سياسة “قص الشعر” Hair cut، خخصوصاً وأن أموال السياسيين وكبار أصحاب رؤوس الأموال باتت خارج لبنان.
المدن