هل يشهد الشرق الأوسط بدء أفول الحقبة الإيرانية الراهنة؟
التأرجح بين “المعركة الوجودية” و”الصبر الاستراتيجي”
تنزلق إسرائيل وإيران أكثر فأكثر في مواجهة لا تدور حول النفوذ الإقليمي، ولا تستهدف تغيير معادلة الردع بين الجانبين فحسب، بل تأخذ بعدا أوسع مع احتدام الصراع حول إعادة تركيب المنطقة على غرار ما حصل من ترتيبات إثر اتفاقيات سايكس- بيكو في القرن الماضي.
عشية الذكرى الأولى لحدث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، يتضح أن المواجهة تطورت بين إسرائيل التي تقول إنها تخوض “حربا وجودية” وإيران المتنقلة بين “الصبر الاستراتيجي” و”المواجهة المحدودة”. والأرجح أن نكون أمام “خريف ساخن” و”أشهر دقيقة” خلال المدة التي تفصلنا عن الانتخابات الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني، وبدء ولاية الرئاسة في البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني القادم. ولذا تخشى إيران من مواصلة بنيامين نتنياهو كسر الخطوط الحمراء، مع زيادة هامش مناورته، وإفلاته من قواعد “ضابط الإيقاع” الأميركي. وبالطبع، بعد الضربات التي تلقاها المحور الإيراني خاصة خط دفاعها الأول “حزب الله” تعمل طهران على حماية الجغرافيا الإيرانية والنظام، وتبدو متأرجحة بين تنازلات عن مكاسبها الإقليمية والخوف من ضرب عناصر قوتها.
إيران المتوجسة بين أبريل وأكتوبر
لم تغير طهران معادلة الردع مع إسرائيل بعد تبادل الهجمات بينهما في شهر أبريل/نيسان الماضي، ولوحظ بعد ذلك توالي تطورات بعضها غامض في الداخل الإيراني.
تسارعت الأحداث بعد وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في 19 مايو/أيار الماضي، والتردد في اختيار البديل. وكان لافتا عدم “تزكية” سعيد جليلي المتشدد، والموالي جدا للمرشد، والإتيان بالدكتور مسعود بزشكيان الشخصية السياسية المغمورة والمتفتحة، بهدف السعي لترتيبات مع الولايات المتحدة وعدم قطع خيوط الوصل مع الغرب.
يندرج هذا التغيير في سياق تاريخي من توزيع الأدوار داخل منظومة الحكم، إذ يبقى القرار الفعلي بيد المرشد علي خامنئي، ويكون هامش مناورة الرئيس تحت هذا السقف. هكذا سواء مع رئيسي أو من دونه، استمر النظام في مواصلة استراتيجية الاستنزاف ضد إسرائيل من قبل وكلائه الـ(Prox)، وساد عند دوائره الاعتقاد بأنه سيعزز أوراق تفاوضه مع واشنطن، وأكبر دليل على ذلك إعلان الرئيس مسعود بزشكيان من نيويورك عن رغبة بلاده في إبرام اتفاق نووي جديد مع الولايات المتحدة، مع الرهان على إدارة بايدن في استمرار “تقييد إسرائيل”.
لكن اغتيال رئيس حركة “حماس” إسماعيل هنية في قلب طهران التي أتاها لحضور تنصيب الرئيس بزشكيان، كشف خللا ضمن “الحرس الثوري” الإيراني والتركيبة الإيرانية، وأثار تساؤلات حول “لعبة الأجنحة” أو الشكوك حول وجود قرار فعلي بالوصول إلى تسوية مستقبلية مع واشنطن على حساب “التضحية ببعض الأذرع”.
وفي التسلسل الزمني للأحداث، امتنعت طهران عن الرد على اغتيال هنية مقابل “وعد أميركي” في الإسراع باتفاق وقف إطلاق النار في غزة. وكان المحور الإيراني يعتبر أن ذلك يشكل “نصرا” ويوقف الاندفاع الإسرائيلي، لكن إسرائيل أفشلت أيضا هذه الجهود، وصممت على محاولة إنجاز “سبق استراتيجي”. ولذلك أخذت الجهود الأميركية تتلاشى مع الوقت، وترك المجال لاختبار قوة مفتوحٍ بين الجانبين.
وقد تلقى المحور الإيراني ضربات قاسية في الفترة الأخيرة من غزة وسوريا إلى إيران ولبنان، مما هدد منظومتهم الدفاعية خاصة مع إضعاف “حزب الله” وزاد الخشية من انهيار ركائز البيئة الأمنية، وشبكة الأذرع والتحالفات الإقليمية، التي جرى تطويرها من أجل ضمان هيمنة النظام ومصالحه، والإبقاء على تمدد” المشروع الإمبراطوري” في الشرق الأوسط، والذي تعزز كما التوسع الإسرائيلي والطموح التركي على حساب العالم العربي.
وإزاء إمكانية تبدل في المشهد لغير صالح إيران، دفع الجناح المراهن على الصلة مع واشنطن (الرئاسة الحالية، ومحمد جواد ظريف والبعض في الدولة العميقة ومنها “الحرس”) للتخلي عن التمسك ببعض مكاسب المحور وأذرعه، وربما يفسر ذلك حجم الاختراق داخل إيران، والذي دفع ثمنه “حزب الله” بشكل أو بآخر.
بيد أن تعرض “حزب الله” لضربة قوية، طالت أمينه العام حسن نصرالله وقادة منظومته العسكرية، وقتل المئات من عناصره، وتدمير جزء هام من ترسانته، أصاب الاستراتيجية الإيرانية، التي كانت تعتمده كأبرز دروعها، وتبعا لذلك، ولرفع المعنويات ومنع الالتباس عند المحور حول مسؤولية طهران عن بعض ما يلحق به، قرر المرشد علي خامنئي بعد تردد توجيه ضربة صاروخية لإسرائيل، علّ ذلك يسهم في حصر الأضرار، وتفادي بدء تفكك محوره، وبدء أفول “الحقبة الإيرانية” التي بدأت منذ سقوط بغداد في 2003.
رهانات الضربة الصاروخية الإيرانية وتتماتها
في هذه الأجواء، أتت الضربة الصاروخية الإيرانية ضد إسرائيل في الأول من أكتوبر/تشرين الأول، وأرادتها مختلفة عن ضربة 13 أبريل الماضي، عبر استخدام 200 صارخ باليستي، ضد منطقتي تل أبيب الكبرى والنقب. وبغض النظر عن النتائج، وإن كان قد تم إعطاء العلم المسبق لواشنطن أم لا، يمكن الكلام عن موقف دفاعي لطهران لاحتواء اهتزاز نظام تحالفاتها، وتراجع مصداقيتها كقوة إقليمية بسبب الهجمات الإسرائيلية.
لكن إيران التي وضعت في قائمة أولوياتها حماية النظام وحماية برنامجها النووي، والحفاظ على محورها وأهم ركائزه “حزب الله”، تجد نفسها أمام تحدي تشكيل مشهد جديد، ولذلك قررت التصدي لرغبة نتنياهو في تطبيق مشروع “النظام الجديد”، والذي أماط اللثام عنه بعد اغتيال الأمين العام لـ”حزب الله”. وهكذا ينظر في إيران إلى الحرب الحالية على أنها حرب تدور رحاها حول النظام المستقبلي للإقليم؛ وبالتالي، فالمهم بالنسبة إلى طهران هو ترسيخ منجزاتها، ومنع مس برنامجها النووي، وتمريره نحو خاتمته في ظلال “حرب الاستنزاف ضد إسرائيل”.
لكن الرد الإسرائيلي المنتظر مهما كانت طبيعته، ومهما كان حجمه، سيزيد من خطر المواجهة المباشرة بين القوتين العسكريتين الكبيرتين في المنطقة. وأيا ما كانت تحفظات واشنطن المنهمكة في انتخاباتها، وأيا ما تكن انتقادات بعض العواصم الغربية، تندرج المعركة في سياق أبعد، ويبدو أن القوى الغربية متفقة على مقاربة مختلفة لإيران ودورها الإقليمي.
وفي مواجهة ذلك تلوح طهران بتغيير العقيدة النووية الإيرانية، بهدف منع الولايات المتحدة من بلورة نظام جديد في الإقليم وممارسة إسرائيل “هيمنة قائمة على التكنولوجيا العسكرية في غرب آسيا”، حسبما يقول مصدر إيراني.
وكان لافتا كلام المرشد خامنئي في تأبين نصرالله عبر اتهام: “أميركا وأذرُعِها في تحويل الكيان الغاصب إلى أداة للاستحواذ على جميعِ المواردِ الطبيعيةِ لهذهِ المنطقة، واستثمارِها في الصراعاتِ العالميةِ الكُبرى. هدفُ هؤلاءِ تحويلُ هذا الكيانِ إلى بوابةٍ لتصديرِ الطاقةِ من المنطِقَة إلى بلاد الغرب، واستيراد البضائعِ والتقانةِ من الغرب إلى المنطقة (…) وهذا يعتبر أن المنطقة بأجمعها تابعة له”.
هكذا حددت طهران أن المعركة تدور حول الموارد والدور الإقليمي. لكن الاستراتيجيين في طهران يخشون أن تؤدي المجابهة إلى أن تكون إيران 2024 مثل العراق 1991 بعد غزو الكويت، وقيام الغرب بإجراءات “تقيد جميع الامتيازات الصاروخية والخاصة بالمسيرات، والقوة الإقليمية والعسكرية والدفاعية لإيران”.
ويخشى الجناح المراهن على الحوار مع واشنطن، من اهتزاز النظام أو تفكك الجغرافيا الإيرانية، في حال نشوب حرب إقليمية. إنه المأزق الاستراتيجي بالنسبة لطهران في منعطف حرج من الحقبة المعاصرة للإقليم.
خطار أبو ذياب / المجلة