وليد جنبلاط: زعيم الجبل… وسيرة لا تنتهي
بقلم الدكتور نضال العنداري
في قلب الجبل، حيث تُنحتُ الملامح من صلابة الصخور، وحيث يتردد صدى الأرز عبر العصور شاهِدًا على مجدٍ لا يخبو، يسطع اسم وليد جنبلاط كقصيدة متجددة، تُكتب كلماتها على صفحات الزمن، ولكنها لا تنتهي. إنه زعيم يحمل في ثنايا شخصيته خلاصة الجبل، صمودٌ أمام الرياح، صبرٌ على المحن، وشموخٌ لا ينحني إلا أمام الحقيقة.
ليس وليد جنبلاط مجرّد شخصية سياسية عابرة في تاريخ لبنان، بل هو تجسيد لروح الجبل بكل تناقضاتها. هو الحارس الأمين على إرث المختارة، تلك القلعة التي تجمع بين البساطة المُطمئنة والمجد المهيب، حيث تتداخل أحجارها مع جذور الشرف والمقاومة. ووراء أبوابها، كُتبت حكايات الزعامة التي ورثها جنبلاط عن آبائه وأجداده، أولئك الذين خطّوا تاريخهم بمداد الحكمة وحبر الدم.
أن تكتب عن وليد جنبلاط، يعني أن تسافر إلى عمق الجبل الذي ظل صامدًا أمام كل الزلازل، إلى أرضٍ حملت بين طياتها أوجاع وطن وأحلام شعب. يعني أن تغوص في تاريخ المختارة، حيث امتزجت دماء الرجال بروائح السنديان، وحيث كان الزعيم الصغير يشاهد بأعين متقدة إرثًا ثقيلًا يُنسج أمامه بخيوط المجد والتضحية.
وليد جنبلاط ليس زعيمًا فقط، بل هو مرآة لبنان، خليطٌ من الوجع والأمل، من القوة والهشاشة، من الجرأة والحذر. إنه درزي، لبناني، عربي، لكنه قبل كل شيء إنسان. رجل يدرك أن السياسة ليست مجرّد فن الممكن، بل هي معركة يومية للنجاة وسط أمواج متلاطمة لا ترحم.
جنبلاط هو القصيدة المفتوحة التي لم تكتمل، والرواية التي تتغير حبكتها مع كل منعطف من تاريخ لبنان الحديث. إنه زعيم يخطو خطواته بتأنٍّ فوق حبال التناقضات، حيث يتداخل الحزن الشخصي مع المصير العام، وحيث تتشابك مثالية المبادئ مع براغماتية السياسة.
في وليد جنبلاط، تجد رجل الجبل الذي يقرأ كتب الفلاسفة، يستمد حكمته من الطبيعة، ويواجهها بعيون تحمل ثقلًا من الحزن والإصرار. إنه ذلك الزعيم الذي يفهم أن الزعامة ليست لقبًا، بل هي حملٌ ثقيل، وأن النجاة ليست بالانتصار فقط، بل بالبقاء على قيد الإنسانية وسط عالم يلتهم الرحمة.
وليست السياسة عند جنبلاط مجرد لعبة معقدة، بل هي فنٌ للبقاء في الزمن الصعب، حيث يصبح الزعيم قبطانًا لسفينة تهيم بين الرياح العاتية، تحاول النجاة من أمواج متلاحقة تسعى لابتلاعها. إنه رجل يجمع في شخصه التناقضات، ذلك الذي يبدو صلبًا كصخر الجبل ولكنه يختزن بين ضلوعه مشاعر تتقد، وأفكارًا تسير بين المثالية والواقعية.
وليد جنبلاط هو ذلك الزعيم الذي يعرف كيف يُحافظ على الجبل شامخًا، ليس فقط أمام عدوه، بل أيضًا أمام تقلبات الزمان وقسوة الأيام.
إرث الحكمة في وجه الانهيار
في خضم كل ذلك، بقي جنبلاط وفيًا لإرث الجبل، ذلك الإرث الذي يُعلمك أن القوة ليست في الصراخ، بل في الصمود؛ أن الحكمة ليست في التنازل، بل في اختيار اللحظة المناسبة لاتخاذ القرار. يرى أن لبنان، رغم كل شيء، يستحق فرصة أخرى؛ فرصة تُبنى على أسس جديدة، على دولة مدنية تُلغي الطائفية، وعلى اقتصاد حقيقي يُنقذ الناس من الفقر.
زعامة من نوع آخر
ما يُميز وليد جنبلاط في هذه اللحظات الحرجة هو إصراره على أن الزعامة ليست سلطة تُمارَس، بل مسؤولية تُحمل. يُدرك أن دوره لا ينحصر في حماية طائفته، بل في المساهمة في إنقاذ وطن بأكمله. ولذلك، لم تكن مواقفه يومًا جامدة، بل كانت مرنة، قابلة للتكيف مع متغيرات الواقع.
جنبلاط في هذا الزمن الصعب ليس فقط زعيمًا يواجه أزمة، بل هو رمز لوطن يحاول النجاة من أوجاعه. رجل يُلخص في مسيرته مزيجًا من الحكمة والجرأة، من الانتماء للجبل والانفتاح على العالم، ومن القدرة على الوقوف في وجه العواصف دون أن ينكسر.
الإنسان قبل الزعيم
بعيدًا عن ضجيج السياسة وضوء الكاميرات، يظهر وليد جنبلاط بوجه آخر، وجه الإنسان الذي يرى في البساطة ملاذًا وفي الطبيعة حضنًا أزليًا. هو ذلك الرجل الذي لا يُغريه بريق المناصب ولا أعباء الزعامة، إذ تجد فيه تواضعًا نادرًا يجعل الزعيم يبدو كواحد من الناس، قريبًا من همومهم ومعاناتهم، بعيدًا عن برج العاج الذي يلوذ به الساسة عادةً.
عاشق الأدب والتاريخ
وليد جنبلاط قارئ نهم، ينهل من كتب التاريخ والأدب كمن يبحث عن مرآة يرى فيها واقع بلاده المعقد. هو من أولئك الذين يعتقدون أن الأدب والتاريخ ليسا رفاهية، بل وسيلة لفهم الحياة وفك شيفرة الواقع. تجد مكتبته مليئة بالكتب التي تُغذي فكره وتُثري روحه، من الفلسفات الغربية إلى أدبيات الشرق، من ماركس إلى جبران. وفي أوقات الشدة، يلجأ إلى تلك الكتب كما يلجأ المزارع إلى الأرض، بحثًا عن الحكمة والسكينة.
ابن الطبيعة ومزارع المختارة
في أحضان المختارة، بين الكروم وأشجار الزيتون، يُصبح وليد جنبلاط إنسانًا أقرب ما يكون إلى ذاته. هو مزارع بسيط يُراقب نمو الكروم، يستمتع بملمس التراب ورائحة الزيتون المُزهر. بين جبال الشوف، يجد الراحة التي لا تمنحها قاعات السياسة ولا أروقة الحكم. الطبيعة بالنسبة له ليست مجرد مكان للراحة، بل مصدر إلهام يعيد إليه التوازن وسط صخب الحياة العامة.
الزعيم القريب من الناس
في نظر أنصاره، وليد جنبلاط ليس زعيمًا يختبئ خلف الحواجز، بل هو رجل يقف إلى جانبهم، يُشاركهم همومهم، يُصغي إلى شكواهم، ويمد يده لمساعدتهم. يرونه كصديق قبل أن يكون قائدًا، كمن يحمل أوجاعهم على كتفيه دون أن يكل أو يمل.
جنبلاط الإنسان هو نقيض الزعامة التقليدية؛ إنه شخصية متواضعة تخفي تحت بساطتها فكرًا عميقًا وقلبًا يتسع للناس والأرض والحياة. هو تجسيد لفكرة أن العظمة ليست في القوة، بل في الإنسانية التي تلامس القلوب وتُلهم الأرواح.
أسطورة لا تنتهي
في كل مرة يظن فيها البعض أن وليد جنبلاط قد اختار الظل، أو أن صدى صوته قد خفت، يعود ليؤكد للجميع أنه ليس مجرد عابر في مشهد سياسي متقلب، بل هو حجر الزاوية في بنية لبنان الهشة. إنه رجل يدرك أن السياسة في بلاد الأرز ليست مجرد فن الممكن، بل هي رقصة على حبل مشدود بين المحنة والرجاء، بين الماضي الذي يُثقل الحاضر، والمستقبل الذي يتوق إلى الخلاص.
رجل الزمن المفتوح
وليد جنبلاط هو ابن الزمن الذي لا يُقاس بالسنوات، بل بالمواقف. رجل الزمن المفتوح على الاحتمالات كلها، الذي يدرك أن التاريخ يُكتب بالصبر، وبالقرارات التي تُتخذ في اللحظات الفاصلة. ستبقى سيرته، كما الجبل الذي نشأ فيه، قصة تُروى عبر الأجيال، تُلهم الباحثين عن الحكمة، وتُذكّر الجميع أن القادة الكبار هم أولئك الذين يعرفون كيف يزرعون الأمل في الأرض، حتى حين تبدو ملامحها جافة وقاحلة.
وليست أسطورة وليد جنبلاط إلا دليلًا على أن بعض الرجال لا يرحلون مع الزمن، بل يظلون نبضًا حيًا في ذاكرة وطن، قصيدة لا تنتهي، تُغنى على سفوح الجبال وفي قلوب الناس.
الدكتور نضال العنداري
أ
.